ستيركوه ميقري ستيركوه ميقري

كرامة الوطن من كرامة المواطن

تجحظ عيون البعض وترتعش يداه وتضعف رجلاه عن حمل وزنه، حتى ولو كان من وزن الريشة، وهو ينظر إلى المشهد السوري المصطبغ باللون الأحمر الداكن، فما يجري لم يكن له أي داع موضوعياً.. وإن الوضع المأساوي الذي تمر به سورية وشعبها لهو أكبر وأعظم من أن يتحمله كل وطني غيور على سلامة البلاد وأمنها واستقرارها.. 

والحقيقة أن الحراك الشعبي لم يأت من فراغ، بل انفجر نتيجة التهابات مزمنة أصابت جسد اقتصاد البلاد، بسبب الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها الحكومة السابقة وفريقها الاقتصادي، والتي رفعت من مستوى الفساد إلى أقصى درجاته، وأفقرت العباد وأوصلتهم إلى أدنى درك، وهو ما قد يحتاج إلى سنوات للتخلص من آثاره المدمرة.. وكنا قد حذرنا مراراً وتكراراً، من  العبث بقوت الشعب ووضعه المعاشي، الذي كان يتردى يوما إثر آخر، بينما أصر المسؤولون على «التطنيش» وكأن الأزمة تحدث في بلاد أخرى.. (فإذن من طين وإذن من عجين )؟،وهم بذلك مهدوا الدروب كلها وعبدوها بالمشاكل والأزمات المستعصية، حتى بات المرء يمضي في سبيله، وكأنه يسير في حقول ألغام جاهزة للانفجار في كل لحظة، أو غائصا في مستنقعات لا قرار لها، ولا مجال للخروج والتخلص منها، إلى أن وقع الفأس في الرأس، وانفجرت أزمة في البلاد، لا أحد يمكنه أن يُنجّم متى ستنتهي، والى ماذا ستؤول الأمور فيها، علماً أن كل ما يجري حتى الآن هو المرحلة الأولى من الأزمة فقط.

لقد كان حرياً بالمسؤولين بعد هذا الانفجار المتوقع، أن يرسلوا رسائل واضحة للشعب، وليس للمتظاهرين فقط،  يقولون فيها إن باب الإصلاحات قد فتح على مصراعيه، وكان هذا بحد ذاته أمراً كافياً لملاقاة آمال وطموح الشعب السوري، (وكفى الله المؤمنين شر القتال)، لكن الذي جرى عكس ذلك تماماً، إذ اعتمد الحل الأمني في لجم المتظاهرين، وبدأت الدماء تسيل من الجماهير تارة ومن رجال الأمن والجيش تارة أخرى، ودخلنا في متاهات المرحلة الثانية، وغاب العقل والتعقل عن الجميع، فالحراك الجماهيري لا يريد التوقف عن التظاهر، وهذا حق طبيعي له، والنظام مصر على موقفه من حل الأزمة بطريقته الأمنية، التي أثبتت الشهور الستة الماضية فشلها، مما أدى بالجميع إلى أن يقفوا في عنق الزجاجة، ودخلوا في استعصاء ثمن الخروج منه باهظ، بل وباهظ جداً.

هذا الاستعصاء الذي نحن فيه الآن، دفع الأمور إلى المرحلة التي نقف الآن في بداياتها، وهي مرحلة صدامات تتسع على الأرض، والذي إن استمر دون الجري السريع والجدي من أجل إيجاد حلول ناجعة له، للخروج من عنق الزجاجة، الآخذة بالتضيق والانسداد، سيتفاقم  الوضع إلى حرب داخلية، لا تبقي ولا تذر، لنعيش فعلا في الفوضى الخلاقة، التي كان التحالف الصهيو - أمريكي يسعى لها منذ سنوات طويلة، تمهيدا للوصول للمرحلة الأخيرة من هذه المسرحية الهزلية القبيحة، والتي هي مرحلة التدخل الخارجي على الطريقة الليبية، الذي سيأتي تحت الواجهة والعنوان نفسيهما، أي بذريعة حماية السوريين، والذي لن يكون له سوى هدف واحد لا غير حقيقةً، ألا وهو تفتيت سورية إلى دويلات طائفية ضعيفة، غير قادرة على حماية نفسها من البسطار الصهيو- أمريكي، الأمر الذي سيقضي على تحالف سورية - إيران - حزب الله، وسيؤمن لإسرائيل الأمان المنشود لحل أزمة الشرق الأوسط على حساب العرب ولمصلحة إسرائيل حصراً.

وهنا لابد من تنبيه الكثيرين من المسؤولين العرب عموماً والسوريين خصوصا، من الخطأ الفادح والشائع الذي يقعون في شراكه، عند تحليل العلاقة بين أمريكا وإسرائيل، والذي مفاده أن إسرائيل هي التي ترسم السياسة الأمريكية، بقوة اللوبي الصهيوني المتنفذ في الكونغرس الأمريكي، بمجلسيه النواب والشيوخ، مطبقين المثل الشعبي الذي يقول: (جدي لعب بعقل تيس)! إن الوقائع والسياسة الإستراتيجية للامبريالية الأمريكية، تثبت عكس هذا التفكير تماماً، حيث أن المصالح فقط هي التي تحدد السياسة الخارجية الأمريكية، وهذه المصالح في حال تعرضت للخطر، واحتاج الأمر للتخلي عن دعم وإعانة إسرائيل، فلن تتوانى عن القيام بذلك، أما القول بأن أمريكا اليوم في وضع ضعيف اقتصادياً وعسكرياً، فأمر بعيد عن التحليل السليم إطلاقاً، ذلك أن التاريخ حافل بدروسه، والتي من أهمها، أن المخرج الوحيد للامبريالية عموماً ولأمريكا خصوصاً من أزماتها، كان وما يزال هو الحرب ولا شيء آخر غير الحرب، أما ما تسمى الآن بمساعدة الشعوب والحفاظ على حقوق الإنسان فليست ذات قابلية للتفكير فيها من قبلها إطلاقاً، وهي ليست سوى شعارات جوفاء قد تدغدغ مشاعر الشعوب ولكنها تلدغها في نهاية الأمر .

 

من هنا فإن الحل الأمثل للأزمة المستعصية، القائمة والجاثمة على عقول وصدور وقلوب وآمال الشعب السوري، هو إيقاف نزيف الدم، واقتلاع المسلحين، ومحاسبة من تجاوز صلاحياته من رجال الأمن، والحفاظ على حق المتظاهرين بالتظاهر السلمي، والبدء بالحوار الوطني، وذلك حقناً لدماء السوريين، مدنيين وعسكريين على السواء، وترجيح صوت العقل على أزيز الرصاص وأصوات القنابل، وملاقاة  أمنيات هذا الشعب الأبي المكافح لتحسين حاضره، الذي لن يقوم للنظام مقام من دونه، وتأمين مستقبله عبر إصلاحات حقيقية، تؤمن الديمقراطية لكل أطيافه، وتمنحه العدالة الاجتماعية التي افتقدها، وتعيد لسورية قوتها ومنعتها، على أساس أن كرامة الوطن من كرامة المواطن، وكرامة المواطن من كرامة الوطن.