الموقف اليومي.. والحركة الشعبية

نقصد بالموقف اليومي ذلك الموقف الذي يتحدد من الظرف الراهن في البلاد، أو إحدى جزئياته دون أن يأخذ بعين الاعتبار أنه ثمة أزمة وطنية عميقة تمتد جذورها إلى عقود من السنين، وتشمل الواقع السياسي بأبعاده الاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية والوطنية العامة، وستترك تأثيرها على مستقبل البلاد لعقود من الزمن أزمة هي نتاج الصراع بين بنية سياسية قديمة متكلسة، وحركة شعبية مشروعة  ولكن لم يُسمح لها ببلورة مشروعها السياسي المتكامل بعد، وفي ظل حركة سياسية مترهلة.

الموقف اليومي بطبيعته موقف زئبقي، مائع، يتكون حسب آخر نشرة أخبار استمع إليها صاحبه، أو يأتي كرد فعل انفعالي مباشر على واقعة هنا أو هناك، من جانب هذه الجهة أو تلك، وهو يؤسس لرأي آني في واقع متحرك له أبعاده المختلفة وتشابكاته العديدة، وهنا يكمن مأزقه المعرفي وخطر انعكاساته العملية، ولكنه في الوقت ذاته يتكئ على ما هو أخلاقي ومن ذلك يستمد قوته، ويكوّن مجاله الحيوي.

وقبل أن نخوض في الحديث عن تجلياته على الأرض، نذكّر بأن مثل هذه الظاهرة تظهر في الخطابين الموالي والمعارض، وبمستويات مختلفة، مما يؤدي غالباً إلى تكوين لوحة ضبابية عن الواقع، وإذا أخذنا بعين الاعتبار الدفق الإعلامي الهائل عن تفاعلات الأزمة ودورها في تسويق الموقف اليومي، سنفهم مدى خطورته ودوره في بلورة الرأي العام، وترتيب موازين القوى، وبالتالي مدى قدرته على التحكم بمسار الأحداث. 

من الناحية الواقعية يمكن تفهّم الموقف اليومي عندما يصدر عن المواطن العادي المغلوب على أمره، والذي يحدد رأيه حسب ما يرى ويسمع، في ظل إعلام رسمي لم يقدم له غالباً سوى الدجل والتزييف المغلف بالحرص على الوطن، أو الإعلام الآخر الذي يحاكي مشاعره وأحاسيسه مستخدماً التقنيات الذكية المؤثرة، مغلفاً هو الآخر بالتباكي على الدم السوري المراق.

ولكن الموقف اليومي يصبح إشكالياً عندما يصدر عن نخب سياسية وثقافية وإعلامية، أو عندما تعمل هذه النخب على تسويق هذا الوعي الشعبوي كل لمصالحه الآنية، والتي لا علاقة فعلية لها بالحراك الشعبي، ولا بالمصالح الوطنية العامة، وهذا ما سنحاول قراءته عرضاً، ونقداً وتحليلاً واستنتاجاً.

الموقف اليومي من طرف بعض نخب الموالاة، مبني على فرضية المؤامرة بأحد أكثر أشكالها سذاجة وخفة وانحطاطاً بالمعنى المعرفي، فالوطن مهدد، وهذا ما يتطلب استنفارا وطنياً عاماً، ورفض بحث أية قضية أخرى، وعلى أساس هذه الفرضية يتحدد الموقف من كل ما يجري على الأرض، فكل من يتظاهر الآن هو متآمر، وكي يسوق هذه الفرضية ويرتقي بها إلى مستوى اليقين، يلجأ إلى الفبركة والدبلجة الإعلامية، حيث يقلل من أعداد المتظاهرين، وعندها الآلاف يصبحون عشرات... وهكذا.. ويحاول أنصار هذا المنطق تسويقه تحت يافطة الوطن والوطنية لإعطائه بعداً أخلاقياً يتعلق بالكرامة الوطنية، قافزين من فوق حقيقة تفقأ عيون الجميع، وهي أن كرامة الوطن هي مجموع كرامات مواطنيه، وأن استرخاص دماء أبناء الوطن هي أخطر مقوضات الكرامة الإنسانية والوطنية، فالوطن ليس جغرافيا أو خرائط مرسومة على الورق، بل هو قبل كل شيء تلك المادة الحية التي تسمى الإنسان بما له من مصالح مادية وروحية، ناهيك عن دوره في  تغييب المؤامرة الحقيقية على البلاد التي لا تستهدف نظاماً أو حزباً أو شخصاً فقط، بل تستهدف بنية الدولة والمجتمع.

الموقف اليومي من جهة بعض النخب المعارضة يتكئ على مأزق إراقة الدماء التي باتت حقاً تُبكي حتى الموتى، وتُهيّج كل النزعات الإنسانية الدينية والوطنية والاجتماعية، لاسيما إذا اتخذ شكلاً طائفيا أو عشائرياً أو ما شابه، وتغيّب العقل بحيث تكون منظومة وعي المواطن العادي مولّفة لتقبّل أي شيء من أجل «الخلاص»، فتصبح ظاهرة عقد المؤتمرات في أحضان جهات معادية أمراً «عادياً» طالما أن الدم يُسفك، لا بل إن دعوة الخارج إلى التدخل «مبرر» طالما أن الدبابات تقتحم المدن، وأن الاعتقال الكيفي قائم على قدم وساق.. هنا كل شيء يخضع لما هو «أخلاقي» الجغرافيا/ الثروات/ القيم/ المستقبل... الدم هنا هو سيد الموقف، والحقيقة التي تخضع لها كل الحقائق الأخرى، ومن خلال التباكي على الدم السوري، تستطيع أن تسوّق الملك السعودي كداعية حقوق إنسان، واردوغان خليفة للمسلمين، والعرعور ليبرالياً، وساركوزي قديساً، وأوباما من سلالة النبي محمد، وهيلاري الأم تيريزا.... وهكذا يمكن قولبة الحقائق، وتكوين صورة نمطية عن الوضع، وصولاً إلى قبول استراتيجيات دولية بالتأكيد ستكلف شلالات من الدم (العراق، ليبيا)، وتطيح بذلك الفضاء السياسي والجغرافي «الوطن» الذي يعتبر البيئة المادية والحيّز المكاني لممارسة الحقوق التي وجد الحراك الشعبي من أجلها أصلاً، أم أن الديمقراطية ستمارس في الفراغ، والتداول السلمي للسلطة سيتم في بلاد موجودة في الخيال فقط، ترسم خريطته بجماجم السوريين ودمائهم؟!.

الموقف اليومي في نسختيه الموالية، والمعارضة لا يتعاطى مع السياسة كعلم له قوانينه وشروطه ومقولاته، وكلاهما يقزّم الموقف السياسي إلى مجرد ردود أفعال، وكلاهما يعبر عن مصالح ضيقة، وكلاهما يحاول أن يتعملق على أكتاف الوطن أو دماء أبنائه.. فالبعض يرفع في وجه الحركة الشعبية شعار الوطنية ويريد من خلال ذلك استمرار فساده، وديمومة قمعه، وإنقاذ نفسه من المحاسبة... والآخر يدعونا إلى مناحة على هامش «كرنفال» الدم السوري لتبرير ما لا يُبرر وطنياً وأخلاقياً، ويشرعن الخيانة الوطنية.

الحركة الشعبية السلمية، والوطنية موضوعياً، وبقوة الطاقة الكامنة، والدفع الذاتي،   ستلفظ كل تلك الطفيليات التي تعتاش عليها من هنا وهناك، ومن يحاول حرفها عن مسارها، وستبلور برنامجها المتكامل وطنياً واقتصاديا اجتماعياً وديمقراطياً، والذي يعبر عن مصالح الشعب السوري الواحد، بعيداً عن الروح الكيدية والثأرية. هكذا تقول تجارب معظم الحركات الشعبية في التاريخ، وهذا عهدنا بالشعب السوري كما تؤكد تجربته التاريخية الخاصة.