الافتتاحية: الحكومة ومآزق أرقامها..

اعترف نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية أمام مجلس الشعب مؤخراً أن 75% من المواطنين السوريين يعيشون على خط الفقر، فقد أكد في معرض رده على أسئلة أعضاء المجلس حول إيصال الدعم النقدي لمادة المازوت إلى «مستحقيه»، أن أعداد المستفيدين بلغت 75% من المواطنين السوريين..!

وفي تصريح حكومي آخر، يقول وزير الإدارة المحلية إن التوزيع قد شمل 4.225 ملايين عائلة سورية بغض النظر عن المخالفات التي تمت خلال عملية التوزيع، والتي يجري استرداد مبالغها الآن..

وهكذا، إذا اعتبرنا أن 4 ملايين عائلة استفادت من الدعم النقدي البالغ بمجمله عشرة آلاف ل.س لا غير للعائلة الواحدة، لتبين لنا أن المستفيدين، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن وسطي عدد العائلة السورية هو خمسة أفراد، يبلغ عددهم الإجمالي بنهاية المطاف نحو عشرين مليون مواطن، أي أكثر من 75% من السكان، ويمكن أن تصل النسبة بالتالي إلى 85% منهم، حسب أرقام التعداد السكاني في سورية. ولكن ليس هذا هو جوهر السؤال الذي تثيره هذه التصريحات.

من المعروف أن الدعم النقدي تقرر توزيعه من حيث المبدأ للعائلات التي تعيش على حد الفقر. وكان الاقتراح الأول يستهدف التوزيع على العائلات التي لا يزيد دخلها الشهري عن 25000 (خمسة وعشرين ألف  ل.س)، واستقر الأمر أخيراً على توزيعه على العائلات التي لا يزيد دخلها السنوي عن 400.000 (أربعمائة ألف ل.س)، أي دخلها الشهري يزيد بقليل عن 30000 (ثلاثين ألف ل.س)...

ومن المعروف أيضاً أن الخطة الخمسية العاشرة اعتمدت رقم 30% من السكان الذين يعيشون على حد الفقر الأعلى (دولاران للفرد في اليوم، أي ستون دولاراً للفرد في الشهر، أي 60×5= 300 دولار للعائلة شهرياً، أي نحو 15 ألف ل.س شهرياً) على أمل أن تخفضه في نهاية الخطة إلى نحو 23%..

وبغض النظر عن أن رقم الفقر محسوباً على طريقة الأمم المتحدة قد تجاوز الآن الـ40 % من السكان، وقد دفع البعض ثمن التصريح والإعلان عن ذلك، فإن تضارب الأرقام حول الفقر من حيث نسبة السكان التي تعيش تحته أم من حيث تحديد الخط نفسه في الظروف السورية، يتطلب التدقيق والتمحيص والمعالجة.

والواقع يبين أن هناك خطين للفقر في سورية، خط اسمي، وخط فعلي، والمسؤولون الاقتصاديون يضطرون للتعامل مع الرقمين. فعند وضع الخطط يتبنون خط الفقر الاسمي (الخطة الخمسية العاشرة مثالاً)، وحين يضطرهم الواقع لمعالجة قضية ملموسة، يجدون أنفسهم مرغمين للتعامل مع خط الفقر الفعلي (تعويض دعم المازوت مثالاً) تحت ضغط الواقع نفسه الذي لا مهرب منه.

إن تناول هذا الموضوع ومعالجته له أهمية كبرى في ظل إقرار مجلس الشعب لقانون العمل الجديد الذي اقترحته الحكومة، والذي نسف مكتسبات هامة تحققت للطبقة العاملة بنضالاتها خلال عقود عديدة، وهو قد حاكى أسوأ ما في القوانين الرأسمالية الغربية في هذا المجال، من دون أن يأخذ بعين  الاعتبار أن هذه القوانين نفسها تعطي الطبقة العاملة حق الإضراب للدفاع عن حقوقها، مما يؤمن توازناً معيناً بين حقوق العمال ومصالح أرباب العمل... ولكن القانون الجديد يتسم بخلل كبير في هذه النقطة بالذات. وهذه النقطة تحديداً لن تسمح بتطوير الاستثمار في البلاد كما يتصور البعض، في ظل أجور منخفضة، وفي ظل قوانين لاتسمح لأصحاب الأجور بالدفاع عن حقوقهم بشكل جماعي، مما سيؤدي في نهاية المطاف إلى تخفيض الطلب وخلق بيئة طاردة للاستثمار وليس جاذبة له..

وفي هذا السياق أقرت فكرة تشكيل لجنة لتحديد الحد الأدنى للأجور. والسؤال هو: استناداً إلى أية معطيات ستحدد اللجنة هذا الحد الذي يرادف حدود الفقر الواردة أعلاه؟ واستناداً إلى أية أرقام لمستوى المعيشة سيتحدد الحد الأدنى للأجور؟

إذا قيل إن سلة الاستهلاك الحالية التي يعتمدها المكتب المركزي للإحصاء هي المرجع، ففي ذلك خطأ كبير، لأنها غير مبنية على أساس صحيح كما تظهر أرقام التضخم، فهنا أيضاً لدينا رقمان للتضخم، رقم اسمي يستند لمعطيات المكتب المركزي للإحصاء، ورقم فعلي يلمسه المواطن العادي من خلال معيشته اليومية، وشتان ما بين الرقمين.

 إن بناء حد أدنى حقيقي للأجور هو مهمة وطنية كبرى، يجب أن يجري عبر مشاركة جميع المعنيين من مختصين إلى عاملين، وأخيراً يحب أن يأخذ المسؤولون هذا النقاش بعين الاعتبار بشكل جدي.

ويجب ألا يعتقد أحد أن هذا الأمر صعب ومعقد لدرجة لا يمكن الوصول إلى نتائج صحيحة فيه. فالمطلوب سلة استهلاك حقيقية تعكس بشكل صحيح وموضوعي التغيرات في الأسعار وتأثيرها على أصحاب الدخل المحدود. والمطلوب بعد ذلك ربط الحد الأدنى للأجور بالحد الأدنى لمستوى المعيشة، وأخيراً تأمين الفوارق بين الحد الأدنى للأجور الحالي والحد الأدنى الذي يعكس الحد الأدنى الحقيقي لمستوى المعيشة، من الضرائب على أصحاب الثروات الكبيرة التي تزداد تمركزاً في ظل القوانين والقرارات التي أقرتها هذه الحكومة على مدى السنوات الماضية.

 إن عدم معالجة قضية الحد الأدنى للأجور بشكل صحيح، لن يضر الاستقرار الاجتماعي فقط، بل لن يؤمن أي نمو اقتصادي حقيقي على المدى القصير والمتوسط والطويل، وحل قضية الأجور بشكل صحيح وعادل هو ضمانة لكرامة الوطن والمواطن.