الخيار الوحيد

إن مجرد توافق أطراف الصراع الدائر في سورية، الدولية والإقليمية والداخلية، على قبول دعوة الابراهيمي لوقف إطلاق النار، وبغض النظر عن التزامهم الفعلي بها، يوضح الاستعصاء المزمن الذي تعيشه سورية، ويعكس عدم قدرة أي من الأطراف المتصارعة على حسم المعركة لمصلحته. وإن التوافق على الهدنة إذ يثبت انكسار التعنت الغربي- الأمريكي ويعكس درجة تأزم حلفائهم الإقليميين من حكام عرب وأتراك، فإنه يعني من جهة أخرى أن الميزان الدولي ما يزال غير محسوم هو الآخر، وأن تغيره تغيراً حاسماً لن يكون قريباً، والتجربة التاريخية تؤكد أن مثل هذه التغيرات قد تأخذ عدة سنوات.. وهذا الأمر بالذات هو ما يعطي الهدنة أهميتها..

إن الأطراف المختلفة إذ وافقت على الهدنة تحت ضغط الواقع المستعصي، فإن أجزاءً منها لا تزال تأمل بحسم يجلبه تغير ميزان القوى الدولي، وتعمل بعقلية الاشتباك حتى (النصر) دون أن تطرح على نفسها السؤال الهام: هل يمكن لسورية الدولة والشعب أن تصمد طويلاً في خضم النار المشتعلة فيها؟

لا يحتاج واقع سورية الراهن، الاقتصادي والاجتماعي والأمني، إلى كثير من الفهم لندرك أن من المستحيل الصمود لسنوات أخرى من الاقتتال بانتظار تغير الميزان الدولي، إن ما يحتاجه إدراك هذه الحقيقة هو شيء من الفهم وكثير من المسؤولية الوطنية..

فشلت الهدنة ميدانياً منذ يومها الأول، ولكن نتائجها السياسية تجعل الحكم عليها بالفشل التام مجانباً للحقيقة.. فقد لاقت فكرة الهدنة ارتياحاً عاماً لدى السوريين رغم شكهم بإمكانية تحويلها إلى واقع، وهذا الأمل وجه أنظار الكثيرين إلى أولئك المسؤولين عن إجهاض الهدنة، وعمّق الفرز خطوة أخرى بين من يريدون لسورية مستقبلاً وبين من لا يريدون.. فعلى صعيد المسلحين ظهرت بوضوح درجة الرعب التي أصابت الجزء المرتبط منهم بالخارج، وانعكس هذا الرعب بسلسلة التفجيرات التي شملت معظم الأراضي السورية، وتوضح بشكل حاسم التمايز الهائل بين المسلحين المرتبطين بالخارج وأولئك الذين حملوا السلاح لأسباب ثأرية ويمكن الحوار معهم، بل ومن الضروري الحوار معهم.. وعلى صعيد النظام تعمق الفرز بين رافضي الحوار، الذين وسعوا عملياتهم من خطف ونهب وتخريب وقتل تحت مسمى (موالاة) من جهة، وبين الوطنيين الساعين إلى الحوار وإلى الحل السياسي من الجهة الأخرى..

ينشغل السوريون اليوم بلملمة جراحهم استعداداً للمصائب الجديدة التي باتت تترصدهم أينما ما توجهوا في أرجاء وطنهم.. وفي الوقت ذاته تنشغل معارضة اسطنبول ومن لف لفها في تصنيع معارضة (موحدة) ضد الحوار، وتتلكأ بعض المعارضة الوطنية في القطع النهائي معها، ويستمر الخطاب الرسمي بنثر الورود فوق قوافل الشهداء المتدفقة دون حسيب..

إن على الوطنيين في سورية، أياً كانت مواقعهم، ألا ينتظروا الحل من الخارج كما تفعل الأطراف المتشددة، فالتوازن القائم يعني بكل وضوح أنه لا حل من الخارج، ولكن بالنسبة للمتشددين فإن الناس وما يعانونه هي آخر همومهم، وعلى الوطنيين لذلك أن يناضلوا كل من موقعه لأخذ سورية نحو الخيار الوحيد الذي يحفظها وينقلها إلى مستقبل تستحقه ويستحقه أهلها، فلا خيارات كثيرة أمامنا لنختار.. وليس ممكناً انتظار حسم مستحيل لا تسمح به موازين الداخل، ولن تسمح به موازين الخارج إلا بعد سنوات تجعل هم السوريين في حينها هو البحث عن خريطتهم، الخيار الوحيد المتبقي هو الحل السياسي بما يعنيه من حوار حقيقي ومصالحة حقيقية.. والحال هذه فإن هدنة العيد لن تكون الأخيرة ولكنها الأولى وستتلوها هدنات.. وستكتسب الهدنات اللاحقة قوتها وفعاليتها في الوصول إلى إيقاف العنف وإطلاق الحل السياسي من كونها ضرورة تاريخية تمليها الظروف الدولية والإقليمية والداخلية، وتفرضها قبل ذلك وبعده مطابقتها لمصلحة الشعب السوري..