الافتتاحية: بين إدارة الأزمة، وحل الأزمة!

لم  يستطع جهاز الدولة حتى تاريخه إيجاد حل حقيقي للأزمة، وبغض النظر إذا كان ذلك تعبيراً عن جهل بعمق الأزمة وأبعادها الحقيقية وتداعياتها ونتائجها وتأثيرها على مصير البلاد، أو نتيجة قوى العطالة المهيمنة على مفاصل جهاز الدولة التي لاتتقبل مصالحها ولا ذهنيتها و لابنيتها الطبقية على قبول الحقيقة التي تقول: إنه لم يعد بالإمكان إدارة البلاد بالطريقة السابقة، وإن الوضع يتطلب تغييرا جذرياً بنيوياً عميقاً يفضي إلى واقع سياسي واقتصادي اجتماعي جديد، أي إلى نظام جديد، فالنتيجة وصول الوطن إلى أزمة تهدده في وجوده.

 

إن دور جهاز الدولة في التعاطي مع الأزمة وكما تدل الوقائع الملموسة على الأرض عمّق الأزمة أكثر فأكثر، فلا الإصلاحات الترقيعية الجزئية في بداية الأزمة، ولا القمع الذي جوبهت به الحركة الشعبية السلمية ، ولا الخيار العسكري المفتوح والوحيد الجانب فيما بعد حل شيئاً بالمعنى الحقيقي، والحقيقة أن جهاز دولة، كجهاز الدولة السوري بتركيبته الحالية، وبالفساد الذي يغرق فيه، وبعقليته الوصائية، عاجز بكل معنى الكلمة عن إيجاد أية حلول واقعية على الأرض وبمعنى أوضح إن الطريقة التي تم التعاطي بها مع الأزمة الوطنية الشاملة الراهنة  حتى الآن هي شكل من أشكال إدارة الأزمة وليس حلها كما ينبغي، وكما يفرضه الواقع الموضوعي، وكما تتطلبه الضرورة التاريخية، وكما تدعو إليه الإرادة الشعبية، والوقائع على الأرض تقول إن العديد من الاختناقات والأزمات القائمة اليوم، هي في جانب هام منها  نتيجة تلك الأمراض البنيوية التي يعاني منها هذا الجهاز ، فأزمات المحروقات والخبز والكهرباء والنقل كانت ستكون أخف لولا عجز هذا الجهاز وتكلسه وشلله التام في بعض الأحيان، لا بل لولا مساهمة جهاز الدولة نفسه في تعميقها.

ما ينبغي فهمه وإدراكه اليوم هو أن الجماهير التي عادت الى الشارع وتعبر عن رفضها للقهر الاجتماعي والسياسي هي اليوم القوة الوحيدة القادرة على حل الأزمة، فدرجة النشاط السياسي العالي للجماهير هي ما ينبغي الاستناد إليه في حل الأزمة حلاً حقيقياً، إذا ما تطور هذا النشاط وتحول إلى أشكال تنظيمية ولو جنينية في بادىء الأمر تصل في نهاية المطاف إلى درجة عالية من تنظيم الجماهير لنفسها، إن هذا  النشاط هو الكفيل بشكل رئيسي بالحفاظ على الأمن الوطني بمعناه الواسع والعام الذي يتجاوز بكل تأكيد الفهم التقليدي الذي يُعمل بموجبه...

ولا سيما أن الجماهير قد بدأت تتلمس طريقها وما نجده من محاولات ملموسة على الأرض هنا وهناك هي بواكير عملية موضوعية لملء الفراغ الناشىء نتيجة عجز جهاز الدولة عن القيام بمهامه و الدور المطلوب منه.

إن لجان الإدارة الذاتية الأهلية التي بدأت بالتشكل هنا وهناك بتسميات مختلفة، وبدأت تدير أمورها الحياتية اليومية في الأحياء والقرى والمدن بشكل مستقل عن جهاز الدولة وفي أحسن الأحوال بالتعاون مع القوى الحية في هذا الجهاز ظاهرة ينبغي التعاطي معها بكل مسؤولية، وبروح وطنية وربما ليس مبالغاً القول إن حل الأزمة و مستقبل البلاد  يتوقف على مصير هذه المبادرات الشعبية، فهي - أي الجماهير- هي القادرة على لجم محاولات تفكيك الوحدة الجغرافية والسياسية للبلاد، وهي الكفيلة بتجفيف منابع العنف وكبح جماح قوى التطرف المختلفة، سواء كانت الميليشيا التابعة لقوى الفساد في النظام، أو الإرهاب التكفيري القادم والممول من الخارج،  وكذلك حل الأزمات المتلاحقة التي تتعلق بالحاجات الأساسية للمواطن السوري من خبز وماء وكهرباء ودواء ووقود.

 إن التجاوب السريع والفوري مع الإرادة الشعبية، ومع رغبة القوى الحليفة الاقليمية والدولية بالشروع الفوري بالحل السياسي، يفتح المجال أكثر فأكثر أمام الحركة الشعبية للقيام بدورها، وصولاً الى سلطة فعلية للشعب على الأرض، هو الشرط الذي يحدد المصير اللاحق لأية حركة سياسية سواء كانت في الموالاة أو المعارضة.