من بنّش.. إلى ميدان التحرير

 تقع قرية بنش في ريف إدلب، وكغيرها من قرى الريف المهمش لم تنتظر قوى التطرف السوداء كثيراً حتى تمد سطوتها عليها، سكانها من أبسط السوريين وأكثرهم معاناة وفقراً، نقلتهم شرارة الحقد الأعمى لبعض متسلقي الحراك الشعبي من حكم الدولة السورية إلى أحضان القمع التكفيري، ولم يمض الكثير حتى أصبح غرباء المدينة يفرضون سيطرتهم باسم «الله» وقوة السلاح على الجميع، وغزت سموم الجماعات المتطرفة التي قدمت من كل أصقاع الدنيا بيوتهم وأراضيهم، ليدفع أهلها الجزية وتمتنع فتياتها عن الذهاب إلى المدارس، ويُختطف شبانها يومياً ليتم تجنيدهم للقتال ضمن تيارات تكفيرية تمتد جذورها إلى دول ارتبط اسمها بجهود إشعال سورية ودفعها إلى مشروع تقسيم لا يبقى منها سوى الرماد.

 

 لكن الجديد في بنش مثير للاهتمام فعلاً، ولعديد من الأسباب يتقدمها ارتباط هذا الجديد بتوجه فكري سياسي جماهيري بدأت ملامحه ترتسم جلية في الأشهر الأخيرة، يقف بوجه المد المتطرف الذي عشش في الكثير من مفردات الحراك الشعبي العربي الذي انطلق منذ سنتين، كما أنه على بساطته يشكل بادرة مشرقة تنير الطريق أمام حركة تطور الوعي الشعبي السوري على وجه الخصوص، وتفتح الأبواب أمام عمل ثوري جديد ساهمت التجربة المرة في تكوينه.

ففي الأيام القليلة الماضية قامت «الهيئة الشرعية» في بنش بالاعتداء على أحد الشباب هناك أثناء رفعه لعلم «الثورة» وقاموا بدعس وحرق العلم لأنه بحسب رأيهم (ومعظم هؤلاء أجانب) علم «كفر» لا يتجانس مع الصبغة «القاعدية» للأعلام المرفوعة في المدينة، واحتد الإشكال بين شباب بنش والغرباء في صحوة غير مسبوقة وأدرك الكثير من الأهالي أنهم قد استعانوا بالشيطان لمواجهة عدوهم وعليهم الآن تخليص أنفسهم من هذا الشيطان وتجنيب بلدتهم صراعاً دموياً ضيقاً قد يطول.

على الضفة الأبعد، سطعت أنوار ميدان التحرير، وتناقلت الناس بلهفة أخبار المتظاهرين المتجمهرين بالملايين، أحكمت اللجان الشعبية إغلاق كل مداخل الميدان، كما نصبت أبراج مراقبة على البوابات مع تزايد الأعداد تزايداً لافتاً وقررت معظم الصحف غير الحكومية أن تحتجب وأن تسوّد القنوات التلفزيونية الخاصة شاشاتها اليوم احتجاجاً على سياسات التيار الحاكم الذي يتغطى بالإسلام، فيما برزت بوادر تمرّد في الإعلام الرسمي، تبدّى في خطوات فردية جريئة عكست حجم الغليان الذي يسود في أوساط الإعلاميين باختلاف مواقعهم، وارتفعت بيانات تندد بـ»البلطجة السياسية» وانتقدت بشراسة وجود رئيس محصن له صلاحيات مطلقة، وغياب دور السلطة القضائية، ومشروع دستور يؤسس للاستبداد معلنة بخطوط عريضة واضحة رفضها المشروع السياسي الجديد للحزب الحاكم الذي تخلى منذ البداية عن القيم والمبادئ والشعارات التي أنتجت التغيير في مصر، وأكدت هذه الأحداث الجديدة على الحيوية الحاضرة للجماهير المصرية بعيداً عن الانزلاق إلى العنف كما حدث في أمكنة أخرى، كما أظهرت عفوية ثورية تتطور بتسارع ثابت نحو منظومة غنية بثقافتها السياسية قادرة على فرض كلمتها في إطار مشروع سياسي-اجتماعي يحفظ تماسك المجتمع المصري ويصون كرامته.

نادت في البداية أصوات خجولة بتسليط الضوء على تلك الأنظمة الشمولية التي قامت على أنقاض الأقدم منها والتي ستفضي في النهاية -بالاستناد إلى تاريخ متزعميها وبرنامجهم السياسي- إلى المزيد من قمع الحريات والانقلاب على الديمقراطية وفق مبدأ «الحلال والحرام»!، وأثار الصعود المسعور لتلك القوى استياء الكثير من القوى الوطنية التي ما فتئت تذكّر بأن الأكثرية السياسية في اللعبة الديمقراطية الناشئة عن ظروف استثنائية انتقالية مدعومة خارجياً ولا تعبر أبداً عن الشرعية الشعبية الصحيحة التي تضمن مشاركة الجميع في بناء الدولة الجديدة، فالفوز بالسلطة لا يعني الفوز بالبلاد، ولا يعني استئثار فريق سياسي ما بمفاتيح التغيير ومفاصل تقدمه وفق رؤية رجعية لا تضع الدولة بمؤسساتها المنتخبة فوق رؤوس الجميع ولا تنطلق من الإصلاح الاقتصادي-الاجتماعي وبقية القضايا الجماهيرية الوطنية الأخرى كحجر أساس في رسم المستقبل الجديد للدولة.

ما بين بنش وميدان التحرير الكثير، الكثير من الكيلومترات وأنهار طوال من الدماء، وبالرغم من التباين الظاهر بين تواضع المشهد المحلي الإدلبي وبساطة أحداثه اليومية وخصوصية حراكه وبين تنوع المشهد المصري واتساعه على آفاق مجهولة، تختبي تحت السطح حقيقة جوهرية تنمو وتتفتح معالمها مع كل جرة قلم أو حرف على لسان، صنعتها حناجر المقموعين و أيادي المهمشين لتعلن من تحت الركام بعث الانتفاضة في سبيل العدالة والمساواة بين الجميع ولتبرهن على مرونة الحراك الجماهيري الجديد الذي سيتحرك بروح كسرت الخوف ولربما سيعلن عن بدء ثورة حقيقية طال مخاضها، تنبع من رحم المعاناة ولا تستورد من الخارج أو تصنعها غرف إعلامية، لتدافع ليس فقط عن حقوق وأماني شعبها في الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، بل للدفاع عن مسيرة التقدم ممن اختطفوها، لتكون مفصلاً جديداً في الصراع بين الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية وبين التقوقع في دوامات العنف التي سفكت وتسفك مزيداً من الدماء..

 

آخر تعديل على الخميس, 26 أيار 2016 22:51