الافتتاحية: الحوار بمن حضر

تعيد التفاصيل اليومية للسياسة الدولية، من مواقف وتصريحات ومؤتمرات، تأكيد الحقيقة القائلة بانتهاء عصر القطب الأمريكي الواحد والقائلة بتشكل توازن دولي جديد ما تزال محصلته صفرية حتى اللحظة، وهذه المحصلة تجعل كل القضايا العالمية معلقة دون حسم حتى إشعار آخر..

يأتي وضع سورية وأزمتها المستعصية ضمن النطاق ذاته، فهي غير قابلة للحسم من وجهة نظر الصراع الدولي. يضاف إلى ذلك توازن الرعب الإقليمي الذي يعني في جوهره خوف الأطراف الإقليمية المختلفة من خارطة جديدة بالكامل يجري العمل عليها لمنطقة الشرق العظيم الممتدة من قزوين إلى المتوسط.. ويكتمل التوازنان الدولي والإقليمي بتوازن الاستعصاء القائم في سورية، والذي جرى التعبير عنه صراحة من النظام بالقول بأن الأزمة مستمرة استمرار تهريب المسلحين وإمدادهم بالسلاح والمال، ومن جهة معارضة اسطنبول- الدوحة بالقول بأن تأخر الاسقاط يعود إلى تأخر «التوافق» الدولي، أي أن حسم المسألة السورية يتعلق بحسم الصراع الإقليمي والدولي.. وكنا قد حذرنا من أن حسم الصراع الدولي لن يجري بين ليلة وضحاها، ولكنه عملية تاريخية ستستغرق عدة سنوات لن تستطيع سورية الدولة والشعب الصمود خلالها إذا استمر العنف بمستواه الحالي.. ولهذا كانت دعوتنا إلى الإسراع بتفعيل الحل السياسي عبر الحوار والمصالحة الوطنية..

يؤكد تشكيل ائتلاف الدوحة الذي جرى مؤخراً صحة هذه القراءة، فقد جاء التشكيل الجديد ليملأ الفراغ الذي خلّفه مجلس اسطنبول إثر تبخر وظيفته الفعلية كغطاء سياسي للتدخل الخارجي المباشر، ومحاولة الإيحاء بزيادة وزن الداخل ضمنه ليست سوى مبرر لاستمراره تحت شكل جديد هو ائتلاف الدوحة، وبوظيفة جديدة هي تعزيز التدخل غير المباشر وتعميقه وصولاً إلى اقتسام سورية بحوار غير وطني أو بحكم الأمر الواقع.

إن هذه اللحظة تحمل أهمية قصوى من حيث هي لحظة تخبط وفقدان وزن بالنسبة لحملة المشروع الأمريكي، ولكونها لحظة تخبط إقليمي في تركيا المأزومة اقتصادياً، وأردن «اسقاط النظام»، وخليج الخسائر المتتالية، والكيان الذي يتلقى الصواريخ في تل أبيب وديمونا.. هي لحظة يمكن تكثيفها بالقول بأن الفرصة التي لم تحصل عليها شعوب تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين بإحداث تغيير حقيقي ينبع من الداخل بأقل التأثيرات الخارجية قد حصل عليها الشعب السوري ودفع ثمنها غالياً، إن الوزن النوعي للمكون الداخلي في حل الأزمة السورية قد ارتفع بحكم الأمر الواقع الدولي والإقليمي، وأياً كانت درجة التدويل التي وصلت إليها الأزمة السورية فإنها ونتيجة للتوازن الدولي والإقليمي قد عادت إلى نقطة البدء، إلى الداخل.. ولعل كيسينجر لم يخطئ حين أعد لهذه اللحظة السيناريو الشهير لإحراق سورية من الداخل، الأمر الذي يجري تطبيقه على قدم وساق من خلال استدامة العنف وتصعيده وتأجيل الحوار والمصالحة من متشددي الطرفين تحت حجة غياب المُحاور الآخر، أو تحت حجة: لا نتحاور مع من تغمست يده بالدماء، وكأن الحوارات الداخلية التي تحل أزمات الاقتتال الداخلي تجري بين أولئك الذين لم يحملوا السلاح والتزموا بيوتهم ليبتعدوا عن دوامات العنف!

إن في الإسراع بفتح طاولة الحوار الوطني، اليوم قبل الغد، قطعاً للطريق على قوى المشروع الأمريكي في لحظة تخبطها الراهنة، وفي ذلك استثمار وطني ومسؤول للظرف الدولي الناشئ لمصلحة الحفاظ على البلد التي قدم ويقدم أهلها الكثير.. وليبدأ الحوار بمن حضر ولتبقى مفتوحةً بنوده وقائمة المشاركين فيه ومدته الزمنية حتى يساهم بتحديدها المشاركون الذين سيلتحقون بالعملية حين تبدأ بالنضوج وإقناع الناس بجدية ووطنية المشتركين فيها..

إن الأزمات المركبة التي تعيشها سورية، الأزمات الاقتصادية والأمنية والسياسية والإجتماعية، لا يمكن الخروج منها بحلول بسيطة، فهي تحتاج إلى حلول مركبة سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية، والتقليل من شأن أحد هذه الجوانب هو فقدان لإمكانية الحل، وأصبح واضحاً رغم كل ما يقال من سياسة أن العمل السياسي هو الجانب الذي يحاول المتشددون من جميع الأطراف تحييده وإبعاده، ولذلك فإن مسؤولية تفعيل العمل السياسي وإطلاق الحوار اليوم هي مهمة وطنية بامتياز..