الافتتاحية الأزمة الاقتصادية.. سياسية أولاً

ساد منطق الحسم الأمني- العسكري طيلة الشهور العشرين الماضية، وأدى هذا المنطق ليس إلى تفاقم الأزمة الأمنية بما يعنيه ذلك من ارتفاع مستوى العنف ومستوى نزيف الدماء ومستوى تهديد الوحدة الوطنية فحسب، بل وأدى أيضاً إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية الموجودة أصلاً.. فوصول العنف والأعمال المسلحة إلى حدودها الحالية أدى عملياً لتراجع الإنتاج على المستوى الكلي وإلى تراجع الوضع الاقتصادي والاجتماعي..

إن استمرار الوضع على ما هو عليه ينذر بتوقف قطاعات أساسية مثل الطاقة والنقل والغذاء. يزيد من تعقيد الوضع درجة الارتباط الكبيرة بين هذه القطاعات وتأثير أحدها على الآخر، الأمر الذي ينذر بصعوبات اقتصادية كبرى وتوقف شامل لبعض القطاعات الأساسية، ويثبت من جهة أخرى ما أكدنا عليه مراراً من أن حلول الأزمة الاقتصادية في الظرف الراهن ليست اقتصادية بالدرجة الأولى ولكنها سياسية قبل كل شيء. إن تخفيف حدة هذه الأزمة يتطلب تأمين خطوط النقل الداخلي والاحتياطات الاستراتيجية والغذائية منها خاصةً، ونقول تخفيف حدتها لأن ما يجري حتى اللحظة هو حلول ترقيعية ما دام الحل السياسي لم يأخذ طريقه إلى النور بعد، وكما هو معروف فإن النقل غير مؤمّن والاحتياطات الاستراتيجية منهكة، وكلما استمر منطق الحسم أصبحت لقمة السوريين وقدرتهم على الحياة مهددة أكثر.. ولذلك فإنه مع مطالبة الحكومة بتحمل مسؤولياتها والقيام بدورها الذي وعدت فيه كاملاً فإن الحل الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا بالحوار وبالحل السياسي، ومن نافل القول إن حلولاً جذرية وناجزة على يد الحكومة الحالية ليست سوى وهم وقبض للريح، ذلك أن ما تقوم به الحكومة حتى الآن، ولنقل ما تسمح به بنيتها، لا يخرج عن إطار إدارة الأزمة، أي تقديم حلول مؤقتة وجزئية، ولكن حل الأزمة مسألة أخرى تحتاج إلى تغييرات عميقة في المنظومة القائمة، وهذه التغييرات بالذات هي مضمون الحل السياسي الذي تأتي ضمن أهم مفرداته حكومة الوحدة الوطنية الشاملة ذات الصلاحيات والبنية التي تسمح بكسر معيقات الحل وتحييدها..

يأتي في هذا السياق الرد على بعض الناطقين باسم أوساط متشددة في النظام والذين يهاجمون ممثلي الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير في الحكومة، عبر بعض وسائل الإعلام المحلي الخاص، بدعوى أن رؤية الجبهة للإعاقات التي تزعم أنها تواجهها يجب أن يدفعها إلى الانكفاء.. وهنا نعيد التذكير بأن دخول الجبهة الشعبية للحكومة كان تحدياً ومسؤولية وطنية ارتضتها الجبهة كخطوة باتجاه حكومة الوحدة الوطنية الشاملة، وكخطوة في طريق الحل السياسي، ومنطق الأمور يفرض أن على الوطنيين كسر المعيقات وليس الانكفاء أمامها، بل ويجب فوق ذلك كف يد هذه المعيقات وإزاحتها..

إن المزاودين الذين يدّعون حرصهم على الوطن، يفوتّون قضية أساسية هي أن على جميع الوطنيين في سورية مسؤولية الحفاظ على إحدى أهم المؤسسات الضامنة لوحدة سورية أرضاً وشعباً، عليهم الحفاظ على مؤسسة الجيش العربي السوري، والحفاظ على هذه المؤسسة لا يكون بتحميلها وحيدةً مسؤولية عبء حل الأزمة التي لم تخلقها هي، والتهليل المستمر لشهدائها وانجازاتها دون أن يترافق ذلك مع تحمل مسؤولية البدء بحلول سياسية حقيقية تسمح بتلبية المطالب المشروعة التي لمّا تلبِّ بعد..

إن الرهان سيبقى قائماً على وحدة مصالح الوطنيين في الحركة الشعبية السلمية، وفي المعارضة وفي النظام، والحل لن ينجز إلا بالسماح لهذه العناصر الثلاثة بإيجاد طريقها إلى العمل المشترك من خلال حوار وطني حقيقي وحكومة وحدة وطنية شاملة.. وفي تجارب مصر وتونس وغزة عبرة للجميع، فالشعوب التي قدمت تضحيات كبرى في جولة أولى، تتأهب الآن لجولة ثانية تضع فيها النقاط على الحروف، وتعيد التاريخ إلى مجرىً يخدم مصالحها ويسمح لها بالتقدم نحو المستقبل الذي تريده..