أسامة دليقان أسامة دليقان

سورية ومشروع «الفوضى الخلاقة».. بين الحركة والسكون

تتكرر حالياً، وعلى خلفية الأحداث والتطورات التي تشهدها سورية، التحذيرات من المؤامرات ومشاريع الفوضى الخلاقة. وإذا اعتبرنا النظام عكس الفوضى، فما هو النظام والاستقرار الذي يضمن ويقي من الفوضى؟ وهل كلّ نظام بحد ذاته لا يحتوي كجزء منه على عناصر اللاانتظام واللااستقرار والفوضى؟

إنّ «الفوضى الخلاقة» بشكلها الظاهر من خلال القتل والاقتتال والعنف الميداني في الشارع ليست إلا آخر تجليات وتظاهرات مخطط تخريب الأوطان، وذلك بعد أن يكون هذا المخطط قد استكمل مقوماته الأساسية، التي تجلّت في سورية من خلال الانتظام في تطبيق السياسات الليبرالية الجديدة عبر السنوات الماضية.

لقد دخلت الساحة الداخلية السورية حالياً في حالة جديدة تبرز فيها حتى الآن سمتان أساسيتان:

1-  بدء تفجّر الاحتقان الشعبي في الشارع بسبب تدهور الأوضاع المعيشية، ونتيجة غياب أي إصلاح حقيقي، ومحاولات أخذ هذه الموجة نحو «الفوضى الخلاقة».

2-  الإعلان الرسمي عن نية بدء إصلاحات.

وفي ظل ظرف عالمي وعربي بدأت تتغيّر فيه موازيين القوى نحو مصلحة الشعوب وضدّ مصلحة الإمبريالية والصهيونية وعملائها من الفاسدين المحليين، يمكن أن نتوقع، وربما بدأنا نتلمّس ومنذ بداية الأحداث، التكتيكات التي يمكن أن تقوم بها تلك القوى من أجل التكيف مع الحالة الجديدة:

أولاً: من مصلحة الفاسدين أن يحاولوا لجم التظاهرات السلمية، بحجة التخويف من الفوضى، مستفيدين من الدماء التي أريقت نتيجة تدخل أدوات الفوضى الخلاقة، المتمثلة خارجياً بالتجييش الميداني والإعلامي من جانب العدو الأمريكي-الصهيوني من جهة، وداخلياً في التعامل الأمني الخاطئ مع الأحداث من جهة أخرى.

ثانياً: ومن مصلحة الفاسدين أيضاً استخدام نفوذهم الإعلامي من أجل الخلط بين التظاهر السلمي من جهة، والتخريب الفوضوي من جهة أخرى، والخلط في استخدام مفردات «عيب»، و«مغرض»، و«فتنة»، من أجل الحفاظ على حالة الهدوء السلبي، التي طالما كانت مثالية من أجل استمرار هذه القوى في فسادها ونهبها دون محاسبة.

ثالثاً: أو أنهم بالعكس، يمكن أن يشاركوا عملياً بالدفع نحو الفوضى والترويع، لكي يتمكنوا من الإفلات من المحاسبة.

ولذلك فإننا نلاحظ الآن، وسوف نلاحظ على مدى فترة معينة لاحقة، أنّ الأصوات التي تردد شعارات الإصلاح، سواء من المجتمع، أو من أجهزة الدولة المدنية، والعسكرية، والأمنية، هي أصوات ليست متجانسة، ولا تنتمي إلى تيار واحد، حيث نجد فيها فعلاً الأصوات الصادقة، وهي عادة أصوات الشرفاء ونظيفي اليد، وكذلك الأصوات الكاذبة، وهي عادة أصوات الفاسدين أنفسهم، الذين يفترض أن تكون رقابهم مستهدفة بسيف أي إصلاح حقيقي. وربما تكون أصوات هؤلاء الأخيرين في بداية الأمر، هي الأقوى والأعلى، والأكثر مزاودة، وتزلّفاً، والأسرع في التلطّي خلف الشعارات الوطنية، والشخصيات والرموز الوطنية، على مبدأ «قيل للكذّاب احلف، فقال في نفسه جاء الفرج».

لكنّ هؤلاء ينسون أو يتناسون أنّ السوريين يحملون سمة هامّة تعدّ إرثاً تاريخياً وشرقياً متميزاً، وهي سمة «الفراسة»، ويستطيعون أن يميّزوا الصادقين من الكاذبين، والأذكياء من الأغبياء المتذاكين، هذا فضلاً عن أنهم يستطيعون بتجربتهم المريرة والطويلة مع الفاسدين، أن يكشفوا المحاولات البائسة لهؤلاء في تلميع صورهم.

إنّ حق جماهير الشعب السوري بالتعبير الوطني عن جميع المطالب المعيشية، والوطنية والسياسية والديمقراطية عبر التظاهر، والاعتصام، والإضراب، سيكون دعامة وقوّة حقيقية يستند إليها أيّ إصلاح حقيقي، بل لن تستطيع القوى النظيفة والنزيهة الموجودة داخل النظام وخارجه، وفي أجهزة الدولة والمجتمع، من أن تقاوم وتهزم القوى الفاسدة في كلّ تلك المواقع إلا بالاستناد إلى تفعيل هذا الحقّ.

هنا علينا أن نسأل: من مصلحة مَن الخلط بين فوضى الاقتتال على أسس مكونات ما قبل الدولة الوطنية من طائفية وعشائرية وقومية... من جهة، والتظاهر الوطني المُطالب بحقوق مشروعة من جهة أخرى؟

إنّ مشروع «الفوضى الخلاقة» هو الجانب الحركي من المخطط الإمبريالي الصهيوني لتخريب الأوطان، والذي هو مخطط مركّب يتألف من مكونين أساسيين:

1- السكون السلبي:

وهو الهدوء النسبي الذي تمّ خلاله التمرير التدريجي للسياسات الليبرالية الجديدة، بكل ما رافقها من استشراء الفساد إلى حدود مريعة، وتفاقم الفقر والبطالة، أمّا «الأمن والأمان والهدوء والاستقرار» الذي نعمت به سورية خلال سنوات تطبيق تلك السياسات، فلم يكن سوى نعيم الفاسدين بسرقاتهم دون منغّصات، والمعزز بصمت واستكانة الجماهير ومعظم القوى السياسية عنه. لذلك يخطئ كلّ من يظنّ بأنّ الإصلاح الحقيقي ليس عملية زعزعة استقرار؟ لأنّه بالفعل زعزعة استقرار الفاسدين والنهّابين، وزلزلة كراسيهم، والإطاحة بمناصبهم، وامتيازاتهم، وحصاناتهم. وهو في الوقت نفسه، وبهذا المعنى، استقرار، استقرار وأمان لأصحاب المصلحة الحقيقية في الإصلاح الحقيقي، وهم الأغلبية الساحقة من الشعب السوري.

2- الحركة السلبية:

إذ جرى في السنوات الأخيرة، تسريع السير المنتظم الهادئ بتطبيق السياسات الليبرالية الجديدة، ولاسيما تحت ضغط الأزمة الرأسمالية العالمية، وبشكل مقصود من أجل تحويل السكون الليبرالي إلى حركة فوضى صهيو-أمريكية.

وبما أنّ الحالة مركّبة فإنّ الحل الإنقاذي يجب أن يكون مركّباً أيضاً، ويجب أن يبدأ من حركة إلى سكون، على أن تكون حركة إيجابية تتضافر فيها القوى الشعبية مع القوى النظيفة في أجهزة الدولة للقضاء على الفساد بالسرعة القصوى، وتصفية المشروع الليبرالي نهائياً، وهذا كفيل بتحويل هذه الحركة الإيجابية إلى سكون وهدوء إيجابي، بمعنى الرضا الشعبي، أي إشباع الحاجات الجسدية والروحية لأبناء الشعب. وهذه الحركة يجب أن تتلازم باتجاهين:

من تحت إلى فوق فيما يتعلّق بالوسيلة: أي بالقوّة الأساسية والوحيدة القادرة على ضرب الفساد، ألا وهي قوة الكادحين الذين هم الطبقة الشعبية الأوسع.

ومن فوق إلى تحت فيما يتعلّق بالهدف: أي بحجم الفساد، بمعنى البدء بالفساد الكبير أولاً، وعندئذٍ يكون زوال الفساد الصغير تحصيل حاصل.

أما انتهاج طريق معاكس، أي أن يُطلب من الناس الاستمرار بالسكون والهدوء والصمت السلبي، ريثما تتم الحركة الإصلاحية، حتى ولو كانت النية صادقة في ذلك، فإنّه منهج غير صالح لأنّه خاطئ علمياً، وخطير:

أولاً: لأنّ الحركة الشعبية الفاعلة هي صاحبة المصلحة الأساسية في الإصلاح الجذري الحقيقي، ولذلك فهي القوة الأساسية القادرة على دفعه قدماً وحمايته والوقوف في وجه القوى الفاسدة المعادية لها والمعادية له، لأنّ تلك القوى الفاسدة من مصلحتها أن يكتفى بإجراءات بيروقراطية «من فوق» فقط، دون تأمين حماية ورقابة شعبية فاعلة، مما يعرضها بسهولة للانتكاس والالتفاف عليها...

وثانياً: لأنّه مع انفجار الاحتقان الشعبي بسبب غياب الإصلاح، يكون الحل الوحيد هو التحكم بمسار هذا الحراك، بل وتقويته وتوجيهه بمساره الصحيح، أي نحو ضرب الفساد الكبير، وإنجاز مهمات النمو الاقتصادي العالي، والعدالة الاجتماعية العميقة، وتحرير الأرض المحتلة. لأنه إذا لم يتمّ ذلك فإنّ هذا الحراك الشعبي، سيتم التحكم به من جانب أصحاب المصلحة في الفوضى الخلاقة، وهم العدو الأمريكي-الصهيوني من الخارج، بهدف حلّ أزمته، والفاسدون من الداخل، بهدف تأخير أو إلغاء محاسبتهم.