تركيا (الدولة - الحزب): مستقبَلان لا يلتقيان..!

تركيا (الدولة - الحزب): مستقبَلان لا يلتقيان..!

ما يجري اليوم في تركيا، وتحديداً في أجزائها الجنوبية والجنوبية الشرقية، لا يرقى إلا لجرائم حرب، تتحمل حكومة «العدالة والتنمية» مسؤوليتها الكاملة. نداءات استغاثة، ومطالبات رفعتها القوى السياسية الحاضرة في تلك المدن للمجتمع الدولي كي يتحمل مسؤولياته اتجاه التجاوزات العمياء لحكومة أردوغان، لم تلق حتى الآن أي تجاوب يذكر.

 

ثمانٍ وخمسين إعلاناً لحظر التجول، شملت عشرات الأحياء في واحد وعشرين مقاطعة ذات حضور كردي واسع، كانت قد أعلنتها الحكومة التركية منذ بدء حملتها العسكرية جنوبي شرقي البلاد. ووسط تكتم إعلامي مشبوه، وصلت أعداد الضحايا إلى ما يزيد عن 290 مواطناً- حسب الأرقام الصادرة عن «حزب الشعوب الديمقراطي»- وبعضهم لم يتم التمكن من التعرف على هويته.. و«حظر التجول»، الذي تحول منذ أيامه الأولى إلى حصار اقتصادي جائر لبلدات تحوي مئات الآلاف من المواطنين، بات يهدد ببوادر كارثة إنسانية في ظل انعدام الكهرباء والماء والخبز والطبابة.

«ثلاثية» الواصلين إلى الحكم

للمفارقة، فإن ما يجري في تلك المناطق كلها لا يعد سوى واحدة من المشاكل والأزمات التي باتت تلغم الأساس الذي بنيت عليه سياسات «العدالة والتنمية». لنعود بالذاكرة إلى عام 2001، العام الذي قامت فيه السلطات التركية بحظر «حزب الفضيلة الإسلامي»، بقيادة رئيس الوزراء الأسبق، نجم الدين أربكان، وبعضوية فاعلة للرئيس الحالي، رجب طيب أردوغان. بعد حل الحزب، انقسم أعضاؤه بين تيارين سياسيين، الأول «حزب السعادة»، الذي حافظ على «الهوية الإسلامية» التي سادت في حزب أربكان، والثاني «حزب العدالة والتنمية»، الذي رفع من «علمانية الدولة» شعاراً لأول حملة انتخابية استطاع خلالها الحزب، الذي حظي فيه أردوغان بالشعبية الأكبر، الحصول على 35% من مقاعد البرلمان، وبالتالي الوصول إلى السلطة.

بعد موجة سادت لعشرين عاماً من حل الأحزاب القائمة على أساس ديني، والتي كان للجيش التركي دورً فاعل في عملية حظرها، كثف «العدالة والتنمية» من طروحاته «العلمانية»، وشطب من برنامجه السياسي معظم الطروحات ذات التوجه الإسلامي، في محاولة منه لتجنب الوصول إلى المصير ذاته الذي وصلت إليه الأحزاب الدينية. وخلال عام 2002، أعلن قادة الحزب «الثلاثية» التي سينتهجها «العدالة والتنمية» في تركيا: 1. تحقيق الرفاه الاقتصادي. 2. بذل الجهود للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. 3. انتهاج سياسية «صفر مشاكل في الداخل، ومع الجوار».

الاقتصاد والجيش: 

قفز فوق الخطوط الحمراء

في الجانب الأول، استطاعت تركيا منذ العام 2002، أن تضاعف اقتصادها أربع مرات تقريباً من حيث الحجم، لكن ذلك لم يكن بجهود تركية خالصة، بقدر ما جاء على خلفية طفرة الاستهلاك والبناء، التي سادت العديد من الاقتصادات الناشئة خلال العقد الماضي، لكن، وعلى غرار معظم دول الأسواق الناشئة، انحدر الازدهار الاقتصادي في تركيا إلى فقاعة خطرة، أطاحت، ولا تزال تطيح، بالنمو الذي جرى تحقيقه في السنوات الأولى لظهور الفقاعة.

وتحول العمل الحثيث للحزب من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلى ورقة استثمرها قادته لضرب الجيش التركي. فرغم أن 10% من البلاد يدخل في نطاق القارة الأوروبية، في مقابل أن 90% منها آسيوي، زرع «العدالة والتنمية»- عبر أجهزته التنظيمية والإعلامية والبيوتات الدينية التي يسيطر على معظمها- في الوعي الجمعي التركي الأمل بإمكانية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وبالتالي، إيجاد مخرج للأكثرية التي تعيش تحت خط الفقر، لإيجاد فرصة التنقل بحرية والعمل في أوروبا. وخلال المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول الانضمام التركي إليه، استغل «العدالة والتنمية» إحدى اعتراضات الاتحاد وهي «التوغل الشديد للمؤسسة العسكرية التركية في سياسات الدولة» ليقوم بما كان يضمره أصلاً من محاولات للسيطرة على البلاد، وضرب مؤسستها العسكرية.

اعتماداً على ذلك، خاض الحزب المواجهة السياسية مع المؤسسة العسكرية، وأدخل تعديلات تمس بصلاحيات الجيش في الدستور التركي الذي كان قد صدر في عام 1982. وفي عام 2003، قام أردوغان بإصدار مجموعة من القوانين التي قلصت من دور المؤسسة العسكرية، وأخضعتها إلى مجلس الوزراء الذي يسيطر عليه الحزب، وتم إلغاء بعض المواد التي تسمح للمجلس العسكري بالحصول على الوثائق السرية. وفي عام 2007، بعيد إعلان «العدالة والتنمية» عن ترشيحه عبد الله غول لمنصب رئيس الجمهورية، قامت رئاسة الأركان بنشر بيان أبدت فيه تخوفها من مصير الجمهورية العلماني، وأصدرت إنذاراً للحزب، وهو ما وصفته الصحافة الغربية والتركية المقربة من الحزب بمحاولة الانقلاب على أردوغان، لتقوم الحكومة بعد ذلك بإصدار قرار يمنع المؤسسة العسكرية من الإدلاء بأية تصريحات تتعلق بالشأن السياسي، وكان ذلك مدخلاً بالنسبة للحزب للتنكيل بالمؤسسة العسكرية، وإجراء تغييرات هيكلية فيها، تحول خلالها عدد من كبار القيادات العسكرية إلى المحاكم تحت ستار قضايا الفساد.

في خدمة التيار الفاشي

أما سياسة «صفر مشاكل في الداخل، ومع الجوار»، فلم يدم نجاحها طويلاً، لتتحول إلى مئات المشاكل التي وصلت اليوم إلى مرحلة تهدد الدولة التركية بشكل قد لا ينتهي إلا بخروج أردوغان من المشهد السياسي التركي، أو بحريق تركي تمتد آثاره أبعد من حدود البلاد.

لم يقتنص «العدالة والتنمية» الفرصة التاريخية التي وفرها التغير الجاري في الموازين الدولية، وصعود قطب «بريكس» وحلفاؤه، لاستعادة النهوض التركي، بعد خريف اقتصادي يكاد يودي بالبلاد. وبعد أن توفرت الفرصة الذهبية المتمثلة بمشروع «السيل التركي»، الذي كان من الممكن أن يعيد الدولة التركية إلى موقف تفاوضي أقوى في التعاطي مع دول الاتحاد الأوروبي، اختار أردوغان ومشغليه ضرب العلاقات الواعدة مع الاتحاد الروسي.

ولا تزال سلسلة التورطات متواصلة، ابتداءً من دول الجوار، سورية والعراق خصوصاً، حيث يدفع الحزب فاتورة التوجهات السياسية والعسكرية للتيار الفاشي داخل الإدارة الأمريكية، وليس انتهاءً بالداخل التركي ذاته، حيث يخوض الحزب حرباً منظمة على المناطق ذات الوجود الكردي، بهدف إشعال الفالق القومي «التركي- الكردي»، وشد عصب الأتراك بعدما انخفضت شعبية الحزب بشكل جازم في الاستحقاقين الانتخابيين اللذين جريا خلال العام الفائت. وهو ما يضع مستقبل الدولة التركية وشعبها، والمستقبل السياسي لأردوغان، على طرفي نقيض.