سورية الجديدة لنا حكمة «المحكومين بالإعدام»!

سورية الجديدة لنا حكمة «المحكومين بالإعدام»!

يبدو لكثيرين، محض جنون، مجرد الحديث عن «سورية موحدة أرضاً وشعباً» في زمن موحش ومتوحش كالذي نعيشه، فما بالك بالحديث عن سورية موحدة وديمقراطية وعلمانية؟! ما بالك أيضاً بسورية نموذجاً أولياً لعالم ما بعد الاستعمار الجديد! ذلك بالضبط الجنون الذي سنتناوله ها هنا..

إنّ من أهم ميزات المراحل الانتقالية، كالتي يعيشها العالم بأسره منذ سنوات عدة، الوضوح الشديد! فالتناقضات الأساسية الكبرى، التناقضات التي تقف في خلفية المسرحية مغذية حبكتها بتعقيدات لا نهاية لها، لا تلبث أن تقفز إلى الخشبة..!

معادلات بسيطة

إنّ مصدر الوضوح الذي نتحدث عنه لا ينجم عن قلة عدد المتحولات التي تلعب أدوراها في إنتاج الواقع، ولكنها تنتج عن الثقل النوعي لعدد قليل من المتحولات. «المتحولات الثقيلة» هذه هي بالضبط ما يسمى ماركسياً بالتناقضات الأساسية.

في قانون الطاقة الحركية مثلاً (طح= 1/2 ك. سر2 أو Ek=1/2 m. v2) نقول أنّ السرعة هي المتحول الأثقل، لأنّها مرفوعة إلى أس أعلى، فإذا طرأ تغير متساوٍ على كل من السرعة والكتلة فإنّ تأثير تغير السرعة سيكون أكبر من تأثير تغير الكتلة.. كذلك هو الأمر مع المتحولات الاجتماعية ولكن مع فارقين أساسيين:

الأول هو أنّ عدد المتحولات في المعادلات الاجتماعية كبير جداً، والثاني هو أنّ هذه المتحولات ليست مستقلة عن بعضها البعض، بل توجد بينها علاقات تابعية. هذا الفارق الثاني يزيد من ثقل المتحولات التي نسميها بالأساسية أو الثقيلة. فإلى جانب ثقلها الذاتي، فإنها تكتسب ثقلاً إضافياً بتأثيرها على المتحولات الأخرى..

حين تصل الحبكة الاجتماعية إلى ذروتها، وتدخل مرحلة الانتقال من وضع قديم إلى وضع جديد، من شيء قديم إلى شيء جديد، تبرز المتحولات الثقيلة بوضوح أشد، فهذه المتحولات بالذات، ولأنها المتحولات الأثقل، تكون المسؤولة عن صياغة هوية الأشياء: نوعيتها وتمايزها عن الأشياء الأخرى. والانتقال إلى الجديد يمر حكماً عبر تحطيمها وإعطائها أدواراً جديدة في معادلات جديدة لأشياء جديدة..

توزيع الثروة

بالملموس الاجتماعي، يمكننا الحديث عن عامل توزيع الثروة كواحد من أثقل المتحولات الاجتماعية على الإطلاق، فمعرفة قيمة هذا المتحول تسمح برسم صورة قريبة من الصحة لكم كبير من المتحولات الأخرى، ويسمح بالمحصلة برسم صورة تقريبية للبلد المعني، والعالم المعني في حال طبقت على العالم بأسره.

في سورية، قبل عشر سنوات، كان توزيع الثروة يأخذ الشكل التالي: (25% لأصحاب الأجور، 75% لأصحاب الأرباح). بكلام آخر، فإنّ ما ينتج في سورية سنوياً يوزع ربعه فقط لأولئك الذين قاموا بإنتاجه. ضمن توزيع الثروة أيضاً واستكمالاً لما سبق فإنّ ربع الثروة المنتجة سنوياً يتقاسمه 90% من السوريين، في حين يحصل 10% المتبقين (أصحاب الأرباح) على ما تبقى، أي ثلاثة أرباع الثروة..

تبدو الأرقام السابقة، ورغم قساوتها، بلا أي معنى ما لم نقتف أثرها وآثارها على بقية المتحولات:

فمثلاً، وبعد هذه النسب، هل يصعب تفسير ارتفاع نسب الفقر؟ هل يصعب تفسير ارتفاع نسب البطالة؟

أكثر من ذلك.. هل من الصعب فهم، وليس تبرير، انتشار الجهل والتخلف؟ وإقبال أعداد من المهمشين على تبني «فكر تكفيري» وحمل السلاح؟

هل من الصعب فهم وظيفة أجهزة الدولة في ظل توزيع الثروة هذا؟ هل من الصعب فهم درجات القمع العالية والفساد والضيق الشديد في منافذ التعبير؟

وإلخ.. إن كان له آخر حقاً!

اللعب بالمعادلات

اعتادت الأنظمة الرأسمالية على محاولة تشويه فهم الناس للمعادلات الاجتماعية، لأن فهم تلك المعادلات يعني امتلاك الناس لقانون التغيير الاجتماعي، ويعني في نهاية المطاف ضرب تلك الأنظمة. أهم أسلوب في عملية التشويه هذه هو تقديم «متحولات خفيفة» على أنها «متحولات ثقيلة»، متحولات تابعة على أنها متحولات مستقلة.. من ذلك مثلاً تفسير النزعات الطائفية والدينية التي ظهرت هنا أو هناك على الأرض السورية بأنها نتاج التخلف! وإن سلمنا جدلاً بأنها فعلاً نتاج للتخلف.. أليس التخلف بذاته نتيجة لأسباب أعمق؟ أليس نتاج الفقر والحرمان والتهميش ومستوى الحريات المتدني والتعليم المتدهور؟ أليست هذه جميعها نتائج لتوزيع الثروة الجائر؟ «لا تلم الكافر في هذا الزمن الكافر/ فالجوع أبو الكفار»، لا تلم المتعصب/ المتخلف أيضاً، فالجذر المسموم واحد.

معادلات كبرى

من الجيد أن «اللحظات التاريخية» التي رافقت خُطب الشخصيات الكبرى وزياراتهم وإفطارهم وصيامهم وتجشؤهم وقيامهم وجلوسهم طوال نصف قرن قد انقضت. من الجيد أيضاً أن العالم بأسره يعيش الآن لحظات تاريخية حقة، تخطّها معادلات كبرى بمتحولات ثقيلة:

أزمة رأسمالية عميقة وشاملة لا مخارج منها إلا بفاشية جديدة مهمتها قتل 5 مليارات إنسان لإعادة التلاؤم بين علاقات الإنتاج والقوى المنتجة.

ضمن الأزمة الشاملة، قطب إمبريالي مخرجه الفاشية الجديدة، وآخر رأسمالي صاعد مضطر لإنهاء الفاشية دفاعاً عن نفسه، ومضطر لشن حرب على الحرب عنوانها «الحلول السياسية».

وقود الفاشية الجديدة هو التهميش طويل الأمد لبلدان «العالم الثالث» عبر آليات الاستعمار الجديد المستند إلى التبعية الاقتصادية بأشكالها المعروفة: (التبادل اللامتكافئ، هجرة العقول، مقص الأسعار، التبعية التكنولوجية). وإنهاء الفاشية الجديدة لا يعني ضربها عسكرياً فقط، بل ويعني إيقاف إنتاج وقودها، وبالتالي فإنّ الحلول السياسية المطلوبة ليست أية حلول، بل هي تلك الحلول التي تضمن استقرار المناطق التي تجري فيها.

استقرار سورية، وتكبيل الوحش الفاشي عنها، يعني دخولها حلاً سياسياً يمنع إعادة إنتاج الأزمة. ويعني بالتالي تدمير المتحول الأثقل الذي أدخلها هذه الأزمة، أي توزيع الثروة الجائر.

إذا كان فيينا2 والقرار الدولي 2254 قد أقرا بعلمانية سورية وتعدديتها، فإنّ ما ينبغي على الشعب السوري إقراره والنضال من أجله خلال الفترة القريبة القادمة، هو مضمون هذه الأشكال السياسية، أي إعادة توزيع الثروة ضمن اقتصاد عالي النمو، عميق العدالة.

إنّ الأزمة الرأسمالية العالمية ذاتها، إذ أطلقت حركة شعبية عالمية متفاوتة النضج من مكان إلى آخر، فإنّ محاولات إنهائها عبر إغراقها بالدماء وتحويل طاقتها إلى طاقة اقتتال بيني، فيما بينها، لن تصمد طويلاً، وإن انكفاء الناس الحالي ليس خنوعاً، ولكنه تحيّن لفرصة قريبة قادمة ستعود معها الجماهير إلى الشوارع في العالم بأسره مطالبة بحياة جديدة وبنظام عالمي جديد، والأمثلة على ذلك حاضرة من الآن.

سورية نموذجاً

ضمن هذه المعادلات الكبرى، فإنّ سورية التي تكثف فيها الصراع الدولي بأسره، مرشحة أكثر من أي مكان آخر لتكون نقطة البدء في عملية التحول العالمي الكبرى، وهي مرشحة لذلك أن تقدم نموذجاً أولياً لعالم جديد..

ليس هذا بغريب عن سورية، فهي أول دولة استقلت عن الاستعمار القديم تعبيراً عن انتهاء عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية وبداية عالم جديد، وهي اليوم تكرر الدور نفسه بطريقة أو بأخرى.. وإن كان غير معروف تماماً ما هي العوامل التي تضعها في هذا الموقع المفصلي، ولكن وجودها فيه أمر محسوس وملموس إلى حد بعيد..

ربما «محض جنون»، ولكنّه أكثر عقلانية وعلمية من الجنون الوحشي البائس الذي يعتري قلوب السوريين وعقولهم.. فالسوريون «محكومون بالإعدام» في محاكم أمريكا وفاشيتها الجديدة وفاشييها الإقليميين وفاسديها المحليين، ولأنهم كذلك فإنّ لهم حكمتهم التي ينفذون بها إلى جواهر الأمور..

آخر تعديل على الإثنين, 25 كانون2/يناير 2016 17:12