التوازن الدولي، ومفهوم «الدولة الوطنية»

التوازن الدولي، ومفهوم «الدولة الوطنية»

اصطلح على نموذج الدولة التي تشكلت في بلدان العالم الثالث، بعد الحرب العالمية الثانية بـ «الدولة الوطنية»، حيث تشكل  هذا النموذج في ظل وضع تاريخي محدد سمته الأساسية والعامة، وجود توازن دولي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، فرض منطقه على مجمل العلاقات الدولية.

 بعد تغير ميزان القوى إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، بات ذلك النموذج على مفترق طرق، حيث أصبحت أغلبية هذه الدول، تحت مطرقة الاستفراد الأمريكي، وسندان تناقضاتها الداخلية، وأصبح مصير العديد منها كوحدات جغرافية سياسية على بساط البحث( يوغسلافيا – العراق- ليبيا- الصومال- افغانستان..وسورية)، فانقسم البعض منها، ويمر البعض الأخر بمرحلة مخاض جديد، مع كل آلام الولادة...

 ومع تبلور الميزان الدولي الجديد إثر صعود الدور الروسي – الصيني ومجموعة البريكس، ولجم الاستفراد الأمريكي بالقرار الدولي، أعيد الاعتبار موضوعياً مرة أخرى لمفهوم الدولة الوطنية، كظاهرة تاريخية، وتوفرت الإمكانية من جديد، لتطور هذا النموذج من الدولة، يتوافق مع سياق التطور التاريخي، ومعطياته الجديدة، يبني على التجربة السابقة، ولا يكررها، ويتجاوز الأمراض الجينية في بنيتها، بالأبعاد الجغرافية، والسياسية، والاقتصادية، الاجتماعية.

إذا كان هذا النموذج أمام تحدي البقاء، بحكم واقع الحال من أزمات، وصراعات داخلية، وتهديد بالتفتيت، والتذرر، فالتوازن الجديد، لايوفر لها ذلك فحسب، بل يؤمن الأرضية التاريخية، إلى كسر حلقة سايكس بيكو باتجاه الاندماج، على أساس وحدة المصالح، والاعتراف المتبادل بالحقوق، طالما أن ذلك يتقاطع مع مصلحة القوى الصاعدة، ويتوافق مع اتجاه التطور التاريخي الجديد.

إن القوى والشرائح البرجوازية، والبرجوازية الصغيرة، في «الدولة الوطنية»، التي تبوأت سدة السلطة في عموم هذه البلدان، والتي ارتضت لنفسها أن تبقى ضمن منظومة التبعية، استنفذت دورها التاريخي، لصالح قوى اجتماعية جديدة قادرة على إنجاز المهام الوطنية العامة، والمهام الاقتصادية الاجتماعية، والديمقراطية، على أساس أنها مهام متكاملة، في إطار واقع دولي جديد، يتطلب كسر سلاسل التبعية كلها، للأوليغارشيا الدولية. 

إن القوى الصاعدة نفسها، مضطرة في سياق إنجاز مشروعها،  الانتقال من الدفاع إلى الهجوم وذلك في الأفق المنظور، وتجذير المعركة، على أرضية البحث عن بنية اقتصادية اجتماعية، وسياسية جديدة، تنسف العوائق التي وقفت أمام التطور المتوازن لبلدان العالم كلها، في ظل تحكم قوى الهيمنة الدولية،  بمصادر الثروة العالمية كلها، واحتكارها الأمر الذي يفضي إلى إخراج الدولة الوطنية من قوقعة المشاريع الدولية، إلى عالم جديد قائم على التطور الحر والمتوازن، يحقق الشرط الإنساني.

لقد كان نموذج الدولة الوطنية، بعد دخول رأس المال مرحلة الإمبريالية، محكوماً على الدوام، بالتوازنات الدولية، لدرجة يمكن القول، أنه ما من دولة يمكن أن تبنى، في ظل الهيمنة الإمبريالية القائمة على ابتلاع العالم، وعليه فإن أي توازن دولي جديد، هو الخطوة الأولى ليس للحفاظ على الدولة الوطنية فحسب، بل رداً على محاولات التفتيت، وما يرافقها من تدمير النموذج كله بالمعنى الرجعي، بل يعني فسح المجال أمام شعوب العالم في طريق بناء الدول الوطنية الجديدة.