قديم الحروب الإمبريالية وجديدها
جبران الجابر جبران الجابر

قديم الحروب الإمبريالية وجديدها

تستمر محاولات الدول الامبريالية إلى تعميم نطاق الحروب الدائرة،  ويلاحظ المتابع أن ساسة ومفكري الدول الإمبريالية لا ينقطعون عن الإلحاح على أنها داخلية أو أهلية ومنها حروب طائفية ومناطقية وعشائرية، وهم يدأبون على تجزئة الآثار التي تتركها المعارك فيكثرون من ذكر القتلى في كل بلد وعدد البيوت المدمرة، وفي مرتكزاتهم الإعلامية يثابرون على عدم إعطاء لوحة واحدة لتلك المعارك.

حروب ..وشعوب 

إن تلك التسميات لا تتوقف عند الأرضية الواحدة التي تسود تلك المنطقة والعالم، فالرأسمالية بكل خصائصها وقوانينها وعلاقاتها الإنتاجية استوطنت القصور والخيم ومضارب البدو وشحنت مختلف العلاقات الاجتماعية بمضامينها.

إن ما يريده ساسة الإمبريالية ومفكروها هو تبرئة الرأسمالية من المسؤولية عن تلك الحروب رغم أن العالم هو عالم رأسمالي، وأن العلاقات الاجتماعية المتكونة قبل الرأسمالية ابتلعتها الرأسمالية ووظفتها، وتعاملت معها لتنفيذ خططها وسياساتها، إنهم كمن يقول: أن النبي يونس هو الذي ابتلع الحوت وأسكنه جوفه.

إن القاصي والداتي بعرف أن عشرات الدول تتدخل في تلك الحروب، ويعرف جيداً مختلف الأنشطة الدولية والإقليمية التي تتدخل بصورة سافرة، إلا أن المبررات جاهزة، حيث يعتبرون صور التدخل المتنوعة لا تتعدى الأساليب غير المباشرة ويركزون على دور الدول الإقليمية من حيث أيديولوجياتها ومذاهبها وأنشطتها الطائفية، وكأنها دول خارج نطاق أسلوب الإنتاج الرأسمالي الذي يلعب دور المحدد للأنشطة في نهاية المطاف.

إن المؤشرات عديدة على أن الدول الرأسمالية الكبرى اعتمدت هذه الحروب بديلاً عن الحروب العالمية التي تزايدت كوابحها، ومن أهم هذه الكوابح الفشل الذي منيت به الحروب العدوانية التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية، ومنها الحرب الفيتنامية والأفغانية والعراقية وغيرها.

يضاف إلى ذلك المنهج البحثي المعتمد من الدوائر الإمبريالية وهو منهج مثالي لا يعتمد التميز بين تكون الظواهر الاجتماعية واعتبارها عملية تاريخية تتفاعل في احشائها العوامل الآنية والقديمة، وهم يرون الظاهرة في صورتها الآنية وليس في صيرورتها التاريخية، وذلك كي يبرروا سياساتهم العدوانية التاريخية ضد مصالح الشعوب وتطلعاتها وكفاحها للاستقلال والتطور الاجتماعي والتقدم الاقتصادي. إن ذلك المنهج المثالي الذي يراد منه عدم تحميل السياسات الاستعمارية المسؤولية عن الظواهر الراهنة بما فيها الظواهر المعبرة في جوهرها عن شكل من الاحتجاج ضد الظلم والاضطهاد الذي مارسته وتمارسه الدول الإمبريالية الكبرى. إن مؤشرات وبراهين عديدة ترى أن ظاهرة التطرف هي نتاج السياسات الاستعمارية وقد قال تشومسكي «إن الإرهاب من صنع النخبة النيولبرالية الأصولية الحاكمة في الإدارة الأمريكية» وقبله بكثير كتب الأديب الانكليزي شكسبير فاضحاً جوهر السياسات الاجتماعية الرأسمالية حيث قال: «الذهب سيضع اللصوص بعد منحهم الألقاب والاحترام والثناء على منصة النواب، وبهذا تحول العالم إلى حيوانات في غابة الرأسمالية القائمة على المال والمصلحة الشخصية» إن الحروب ضرورة للأزمة الرأسمالية الدائمة رغم أن حجم الحروب الممكنة لم يعد كافياً لإخراج الرأسمالية من أزمتها، وفي هذا الإطار فإن السياسة الأمريكية تنحو بثبات نحو جعل الحروب «الأهلية» حروباً مديدة تتراجع نيرانها حيناً لكنها لا تخمد، إنها تنتهج سبيل مراكمة أكبر عدد من الأزمات وتعمل على استمرارها، وذلك يؤمن لها أوسع مساحة من التضليل الفكري والسياسي خاصة وأن الأطراف المتحاربة لا تتجه لقطع حلقات السياسة الأمريكية، ولا تسعى فعلياً لأخذ القضية الوطنية بعيداً عن أيدي الدول الاستعمارية، وذلك ممكن عندما تتحول الإرادة السياسية كلياً نحو ايجاد الحل الوطني الديمقراطي.

شعارات ليس إلا!

إن خط اعتماد الحروب في مصلحة الامبريالية تلازم دائماً مع سعي الدول الإمبريالية لإحباط الاشتراكية وإفشال النضال الوطني التحرري، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أخذت قيادة ذلك الاتجاه منذ دخولها الحرب العالمية الأولى، وقد جرى ذلك في نيسان عام 1917 إلى أن ما أخفته السياسة الأمريكية هو أن دخولها الحرب كان ضرورة لإنهائها والتفرغ لمواجهة الثورة الاشتراكية الروسية التي انتصرت في أكتوبر عام 1917، وحقيقة معروفة، هي أن حرب التدخل لإفشال الثورة الاشتراكية بدأت عام 1918 ودامت عامين وفشلت حرب التدخل الاستعمارية ولم تكن مبادئ ولسن مواجهة ضد اتفاقات لاقتسام العالم التي وقعتها انكلترا وفرنسا وفضحتها ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى، ولم تكن المعارضة اللفظية لتلك الاتفاقات تشكل جوهر وأبعاد الموقف الأمريكي الذي أصبح متمركزاً على اقتسام الثروات والتحكم بموارد ومنابع الطاقة واستخدام البنوك الدولية والاحتكارية في إدارة اقتصاديات الدول الأخرى، وممارسة نهب الدول النامية عبر المديونية واقتسام الأسواق ومواطن الاستثمارات، إن مبادئ ولسن فيها ما يشبه الاسترشاد بالسياسة الإنكليزية، التي ملخصها الإكثار من الوعود والقليل جداً من الالتزامات قصد ولسن بإعلان المبادئ إضعاف تأثير ثورة أكتوبر كما أراد تضليل الشعوب عندما لم يؤيد اتفاقات الاقتسام بين الانكليز والفرنسيين وكأنه يقول أن ذلك ليس من خصائص الرأسمالية

ماذا عن الصهيونية؟

إن ذلك الخط الاستراتيجي للسياسة الأمريكية إزاء قضية الشعب الفلسطيني، ورغم أن ولسن أعلن أنه مع حق تقرير المصير، وضد الإلحاق إلا أن الأمر انتهى فعلياً إلى دعم أمريكي مطلق لنشاط الصهيونية وأهدافها، كما انتهى لتأييد وعد بلفور. حيث وافق ولسن على بيان بلفور في تشرين الأول عام 1917 ولم يكتف الصهاينة الأمريكان بتلك الموافقة، وحققوا ما أرادوا عندما أعلن ولسن شخصياً ورسيماً تأييده لبيان بلفور وقال: «اعتقد أن الأمم الحليفة قررت وضع حجر الأساس للدولة اليهودية في فلسطين بتأييد تام من حكومتنا وشعبنا».

وفي هذا الصدد فإن ذلك الخيط السياسي الاستعماري الذي عبر عن حقيقة عداء الولايات المتحدة للتحرر الوطني، يجد وقائعه الملموسة في سياسات عداء مصر أيام عبد الناصر، ودعمها للحروب الإسرائيلية وموقفها من اتجاهات التنمية المصرية وكشفت عن عمق عدائها للتحرر الوطني بعد قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس. أما المثال الآخر عن ذلك الاتجاه الأمريكي المستمر فنجده في العمل العدواني الذي نسخته أجهزة الولايات المتحدة ضد مصدق، وأحاطت به، وأعادت الشاه الإيراني لحكم إيران وتخلت عنه لاحقاً. إن هذين المثالين يضعان المرء أمام حقيقة تاريخية وهي العداء السافر للتوجهات الوطنية، وكان لذلك دوره في مسارات تطور المنطقة سياسياً

 واليوم فإن هذا الخط السياسي الأمريكي مستمر بصيغ جديدة، ويأتي في مقدمة ذلك السعي الثابت للحيلولة دون دور حاسم للقوى الوطنية الديمقراطية، إلى جانب بذل كل جهد لاستمرار تلك الحروب، وحتى الحل السياسي الأمريكي فإنه يقوم على تحقيق القنبلة الموقوتة التي يمكن أن تنفجر في أيه لحظة، ويتذرع ساسة الإدارة الأمريكية بضرورة تحقيق الوحدة الوطنية وهم يهدفون من وراء ذلك التكتيك السياسي تشويه مفهوم الوحدة الوطنية وإفراغه من أبعاده ومكوناته الوطنية، وتدل المواقف الأمريكية المتعلقة بليبيا أن الشكل الاستعماري هو أن يكون للدول الامبريالية دورها في تشكيل الحكومة وتحديد سياساتها لاحقاً. إن وقائع التاريخ تشير إلى أن الامبريالية الأمريكية تسعى إلى الدفع باتجاه تبني الأشكال السلبية في النضال ضد الظلم السياسي والاجتماعي والوطني والقومي الذي مارسته وتمارسه الولايات المتحدة الأمريكية، وترى في هذه الأشكال السلبية التي توجه ضد المدنيين وضد البنى التحتية والمساكن والآثار وقائع تساعدها على التضليل السياسي وحجب جوهر الحروب، وعدم تبيان دور الولايات المتحدة وحلفائها في تلك الحروب.

من المناسب أخيراً الإشارة إلى موقف المخرج الأمريكي مايكل مور في فلمه (فهرنهايت 11/9) وفي كتابه «الجميع إلى الملاجئ» حيث فضح دور إدارة بوش والشركات العملاقة الاحتكارية في نشر الفساد والإرهاب والحروب وتخريب الديمقراطية والضمير الإنساني والأخلاقي والعلاقات السياسية الدولية وانتهاج قتل البشر.