تجويع.. ومكافحة إرهاب؟!..

تجويع.. ومكافحة إرهاب؟!..

ليس مصادفة أن تسابق قرارات رفع أسعار المواد الأساسية خطوات الحل السياسي ومحطاته؛ ذلك أن ظهور بوادر تغيرات عميقة على الساحة السورية، لجهة إنهاء الأزمة، تدفع قوى الفساد الكبير نحو غذّ السير باتجاه فرض نموذجها الذي تريد كأمر واقع.

ليس جديداً القول إن الاعتداء على لقمة السوريين وقوتهم يمثل تعطيلاً لخروج البلاد من أزمتها العميقة، وفي هذا السياق يأتي القرار الحكومي الأخير برفع أسعار الخبز والمازوت والغاز، ليعمق جراح السوريين ويزيد من آلامهم، التي كان قد ولّدها صراع مدمر بدأ على الأرض السورية منذ أربع سنوات، نشأ بدوره بفعل قرارات وسياسات تشبه القرار الأخير المذكور..
دولة رخوة..
تضغط قوى الفساد الكبير بكل ثقلها لتصفية آخر ما تبقى للدولة من دور اجتماعي. فالدولة، من وجهة نظر هذه القوى، يجب أن تتخلّص من كل مسؤولياتها و«أعبائها» في دعم المواطنين، وأن تتحول إلى «حارس» لممتلكات تلك القوى. هذه التحولات يجب أن تجري قبل الوصول إلى حل سياسي، ما قد يضمن لها مواقعها وحصتها من النهب، ويفرضها فرضاً في النموذج اللاحق الذي يلي الحل.
وفي المقابل، تنتصر الحكومة لتلك القوى وتغازلها عبر قرارها الأخير برفع الأسعار، وأيضاً عبر ما سبقه من قرارات اقتصادية تصب في الاتجاه ذاته: الرفع المتتالي لأسعار المواد الأساسية، وتجاوز «الخطوط الحمراء» في قوت السوريين، والتمهيد للخصخصة سراً وجهاراً.. الخ، لتكرّس بذلك مبدأ الدولة الرخوة والضعيفة، التي لا تضطلع بأي دور اجتماعي، وتقتصر على دورها في حماية نمط توزيع الثروة الجائر، الذي يتنامى في ظله الجانب القسري طرداً مع تمركز الثروات المنهوبة بأيدي قلة قليلة.. كل ذلك، استدعى ويستدعي النظر إلى السياسات الحكومية، والسياسات الليبرالية عموماً، كإحدى أدوات الهجوم على الدور الاجتماعي لجهاز الدولة الذي كان قد مثل أحد مرتكزات السيادة والوحدة الوطنية، وخصوصاً في المرحلة الحرجة التي تعيشها البلاد.
ماذا عن مكافحة الإرهاب؟!
تعتمد بعض الأطراف الموالية المتشدّدة، منطقاً مبتذلاً في مناقشة الشؤون الاقتصادية والمعيشية وعلاقتها بالأزمة وتداعياتها المختلفة. إذ يقوم هذا المنطق على فصل تلك العوامل عن بعضها البعض. ويظهر الأمر واضحاً فيما يتعلق بمسألة مكافحة الإرهاب، إذ لا توفر تلك التحليلات فرصة للمزاودة لفظياً وإعلامياً على الشعب السوري، بمدنييه وعسكرييه، عبر دعوته لمواجهة الإرهاب وتحمّل صبر ومشقة تلك المواجهة. والمشكلة ليست كلها هنا، بل في أن تلك الأطراف تقوم في المقابل بسوق تبريرات مبتذلة للقرارات الاقتصادية الجائرة، التي هيأت الأرضية لانفجار الأزمة واستمرارها وفسحت المجال للتدخلات الخارجية بأكثر أشكالها بشاعة. وتتجاهل تلك الأطراف أن مثل تلك القرارات تعيق تكوّن الأسس الموضوعية والعملية لتكاتف السوريين ضد الإرهاب، بمعزل عن رغبتهم وإصرارهم على مكافحة الإرهاب والقصاص منه، لأنهم ببساطة لا يواجهونه وحده فحسب، بل يواجهون معه مسبّباته وآليات إعادة إنتاجه اقتصادياً- اجتماعياً، وهذا الأمر مستحيل موضوعياً.
إن مواجهة الشعب السوري للإرهاب تتطلب، أولاً، حداً أدنى من الاستقرار المعيشي والاجتماعي، وتالياً، الوصول إلى حل سياسي يضمن بدوره حداً أدنى من مقومات الوحدة الوطنية. وهذان الأمران يصطدمان بنمط توزيع الثروة القائم، الذي تستحوذ بموجبه حفنة قليلة من الفاسدين الكبار على معظم الثروة، ولا تحصل الغالبية الساحقة من السوريين إلا على القليل، فيما يجري ذلك في ظل حكومة تبحث «بالمكبرة» عن الموارد في جيوب الفقراء، وتتغاضى عن ثروات الفاسدين..