قراءة في بعض مقولات ٢٠١٤ الإعلامية الخاصة بالأزمـة السـورية

قراءة في بعض مقولات ٢٠١٤ الإعلامية الخاصة بالأزمـة السـورية

ليس جديداً الحديث عن الدور البارز والمتعاظم الذي لعبه ويلعبه الإعلام في الأزمة السورية وغيرها من الأزمات المتنقلة حول العالم. وإذا كانت «قاسيون» قد عملت على الوقوف بالتحليل والنقد أولاً بأول عند مستجدات الطروحات السياسية والإعلامية المتعلقة بالأزمة السورية خلال عام 2014، فإنّ من الضرورة بمكان إعادة التركيز على بعض المقولات الأساسية التي تشكل بتداخلها وبنائها المشترك منظومة مغلقة متكاملة تقود التفكير آلياً إلى النتائج التي يبتغيها أصحاب هذه المقولات..

محمد الذياب - مهند دليقان

«الحكومات الغربية

متخوفة من الظاهرة الإرهابية»

تستند معظم وسائل الإعلام الأجنبية والعربية إلى تصريحات المسؤولين الغربيين أنفسهم لتخرج بمقولة تخوفهم من الإرهاب، وتسقط عن عمد جملة الحقائق المتعلقة بتدريب ودعم وتمويل هذه الحكومات نفسها للحركات الإرهابية ابتداءً من طالبان مروراً بالقاعدة ووصولاً إلى داعش، وعلى رأسها الحكومات الأمريكية المتعاقبة، كما تسقط هذه الوسائل من التحليل الغايات والأهداف الغربية في مناطق انتشار الإرهاب، الأهداف التي وللمصادفة تتطابق مع أهداف الحكومات الغربية!

وتستكمل المقولة الآنفة الذكر من قبل بعض المتذاكين بأن الإرهاب وإن كان تصنيعاً غربياً فإنه قد خرج من القمقم وتفلت من الضبط الغربي ولذا فقد أصبح خطيراً.. إنّ سذاجة هذا القول لا تحتاج إلى كثير كلام لدحضها فوقائع عمل تحالف واشنطن في سورية والعراق تقطع الشك باليقين في هذه المسألة وخصوصاً في معارك من نمط عين العرب- كوباني التي لم يتورع الأمريكيون خلالها عن دعم داعش بشكل شبه علني ومعهم حكومة أردوغان بطبيعة الحال.     

تتمتع المقولة السابقة بأهمية مفتاحية ضمن سلسلة المقولات التي سنعرضها بعدها، فهي الأساس الوهمي الذي يسعى الإعلام لتكريسه ومن ثم التشييد فوقه.. فـ«خوف الغرب من الإرهاب» وضمناً عداءه له، يجعل من الممكن أو من المبرر الحديث عن «تحالف» ما معه، ويقدم تفسيراً لمقولة «التراجع الأمريكي عن إسقاط النظام السوري»، لينتهي ذلك بمقولة «الخندق الواحد»، وهذه كلها مقولات سيأتي نقاشها في السياق..  

«واشنطن لم تعد تفكر بإسقاط النظام السوري»!

تتكرر هذه المقولة على وسائل إعلام مختلفة ومتناقضة، مقرونة بالتفجع تارةً باعتبارها مأساةً، وبالتهليل حيناً باعتبارها دليلاً على الانتصار. ومفهوم أنّ بعض الإعلام المحسوب في جهة الموالاة هو من يهلل، ومقابله المحسوب في جهة المعارضة هو من يتفجع، ولكن أياً كان السياق الذي توضع فيه هذه المقولة، فإن المشترك والمؤسف فيها هو تعامل الجانبين معها باعتبارها «حقيقة»..

إنّ المقولة تفترض أن هدف واشنطن السابق كان إسقاط النظام في سورية وأنها عدلت عن هذا الهدف نتيجة لعجزها عن تحقيقه أو نتيجة لتداخلات أخرى لها علاقة بالإرهاب وداعش سيجري الحديث عنها في مكان آخر من هذا العرض. إنّ أي دارس جدي للمشروع الأمريكي في المنطقة يعلم أنّ مسألة إسقاط الأنظمة وتغييرها هي آخر اهتمامات واشنطن، بالمقابل فإن إسقاط الدول وتدمير الجيوش الوطنية وصولاً إلى التفتيت والتقسيم كانت وستبقى الأهداف الأساسية التي يجري تكييف الأهداف الأخرى لمصلحتها، وفي الحالة السورية فإنّ الأهداف تصبح تدمير الدور الوظيفي لسورية كإحدى مواقع ممانعة المخططات الأمريكية وكنصير للقضية الفلسطينية كحد أدنى وتقسيمها وإنهائها كحد أعلى.

كما أن الجزء من المعارضين الحزين على «التراجع» الأمريكي عن «هدف إسقاط النظام» إنما يعيد التأكيد على ارتباطه بالأمريكي وعجزه وخلو جعبته من برنامج وطني بديل يسعى لتحقيقه، ويعمل على إقناع السوريين به.

«الخندق الواحد»

لعل أكثر المقولات الإعلامية استفزازاً للضمير الوطني هي تلك التي رأت أن الجيشين الأمريكي والسوري في خندق واحد في محاربة الإرهاب، وربما لا يوازيها استفزازاً إلا مقولات من نمط تلك التي يدبجها ميشيل كيلو وأمثاله الذي اعتبر مؤخراً أنّ تتالي الأحداث في سورية أكّد أنّ «فرنسا هي الصديق الوفي لسورية»! 

إنّ إعادة التذكير بهذه المقولة لا يبتغي التعريض بأصحابها - وهم يستحقون ذلك- بقدر ما يحاول التنبيه إلى أنّها نتيجة طبيعة لمقولات من نمط المقولة السابقة: «أمريكا لم تعد تفكر بإسقاط النظام السوري»، ومن نمط: «الحكومات الغربية متخوفة من امتداد الظاهرة الإرهابية ووصولها إليها».

إنّ الترويج لمقولات من صنف الخندق الواحد وما يشابهها يؤشر بوضوح على أنّ بعضاً من فاسدي النظام يرسلون إشارات بأنهم سيعملون على تغيير دور سورية الوظيفي المقاوم والممانع نزولاً عند رغبة الأمريكي وصولاً إلى خندق واحد معه يعتقدون أنه ضمان لهم ولاستمرارهم، الأمر الذي يعكس في جانب آخر منه اعتقاد هؤلاء بأن استمرار فسادهم مقرون بالرضا «الدولي» والأمريكي تحديداً الذي ما زالوا يرونه سيد العالم، وليس مقروناً بالرضا الشعبي عنهم، فلا وزن لآراء السوريين في نظر هؤلاء ما دام قمعها ممكناً.. يجري الترويج في سياق فكرة «السيد الأمريكي» ذاتها، إلى وجود خلافات روسية- إيرانية، وعمل أمريكي على إلحاق إيران بها، وإلى وجود رضا إيراني بهذه العملية، الأمر الذي يخالف وقائع التوازن الدولي الجديد ويحاول الالتفاف عليه وإنكار حقائقه.. 

في سياق «الخندق الواحد» تندرج مقولة: «لا يمكن دحر داعش إلا على يد الجيش العربي السوري، مما يدفع واشنطن لمحاولة التفاهم معه»، حيث تبدأ المقولة بتلطٍ رخيص وراء الجيش العربي السوري وتضحياته وصولاً إلى محاولة تدنيسه بـ«محاولات واشنطن التفاهم معه» أو التعاون أو التقارب أو غيرها من المرادفات. أضف إلى ذلك أن المقولة تعتبر واشنطن جدية في محاربة داعش وتبرئها من العلاقة معه!.. فوق ذلك كله فإنّ وضع مهمة دحر داعش على كاهل الجيش العربي السوري دون قرن ذلك بالحل السياسي الذي يؤمن المدخل نحو وقف التدخل الخارجي، يعني استمرار معركة الجيش السوري مع تنظيم ذي إمداد مفتوح من واشنطن نفسها وحلفائها لسنوات وسنوات قادمة، ما يعمق حالة الاستنزاف ويوصلها إلى العتبات التي تبتغيها واشنطن في تدمير الجيش السوري وتدمير الدولة السورية، وكل ذلك ضمن وهم «التحالف» أو «التعاون» مع الطاعون الأمريكي.

حاربوا الإرهاب!.. بـ«الإيديولوجيا»

بالتوازي مع المقولات المشار إليها، تبدو محاولات تفسير الظاهرة الإرهابية انطلاقاً من الجانب الأيديولوجي عزفاً على المقام نفسه.. فأول من قدم ونشر التفسير الأيديولوجي المزعوم للإرهاب –قبل مدعي العلمانية والحداثة في منطقتنا- هو الغرب عبر نظريته عن «صراع الحضارات» التي روّج فيها لصورة «الغرب» العاقل الحضاري الحر المتقدم الإنساني في مقابل «الشرق» المتخلف الاستبدادي القمعي المتوحش. ولا نعدم بين الحين والآخر تحويرات لهذه «النظرية» تحل «الإسلام» مرةً و«الشيوعية الشرقية» مرةً أخرى محل التعبير العام «الشرق» وتأتي هذه الاستبدالات وفقاً للمرحلة التاريخية المناسبة وضروراتها، من وجهة النظر الغربية بطبيعة الحال.

إحدى أهم نتائج «التفسير الأيديولوجي» أو الديني للظاهرة الإرهابية هو نسبها بكليتها إلى «الشرق» وإلى شعوب الشرق، ما يعني براءة «الغرب» منها تلك البراءة التي تمنحه بالتضافر مع كونه «متقدماً إنسانياً حضارياً» موقع المنقذ والمخلص الذي لا محيد عن التبرك بطائراته وتدخلاته. فوق ذلك فإنّ إحدى التمظهرات السياسية لهذا النوع من التفسيرات يظهر جلياً في عمل أطراف بعينها على تركيز الهجوم على دول مثل السعودية وقطر وتركيا –وهي تستحق الهجوم بطبيعة الحال- على حساب الهجوم على معلمها الأمريكي، الأمر الذي يقود في جانب منه إلى تكريس أوهام من قبيل تخوف الغرب من الإرهاب وإمكانية التحالف معه والخندق الواحد وإلى ما هنالك..  

 مثل هذا المنطق، يشي إضافة إلى ما سبق برغبة بعض ممن يطلقونه بانتزاع الرضا الغربي في ملف «مكافحة الإرهاب»، أملاً بتولي دور «الوكيل المعتمد» في «محاربته».

«موسكو-1» 

استبقت العديد من المنابر الإعلامية، من مواقع الموالاة والمعارضة، الجهد الروسي الرامي إلى إنعاش مسار الحل السياسي، بتقديمه على أنه «مبادرة روسية» جديدة. تجاوز الأمر ذلك، إلى ابتداع اسم لـ«المبادرة» هو «موسكو-1»، وإعادة بث هذه التسمية دونما توقف، بالرغم من نفي كبار المسؤولين الروس وجود أيّة مبادرة روسية. بالتوازي، أشاعت المنابر ذاتها أقاويل عن «مبادرة مصرية»، للحد الذي دفع بوزير الخارجية المصري إلى نفي تلك المبادرة وتأكيد دعمه للمسعى الروسي.

ليس من الصعب فهم هذا السلوك لوسائل الإعلام في تعاطيها مع التحركات الروسية، فهي ببساطة قد تمرّكزت حول مهمة شطب فكرة «الحوار سيجري على قاعدة بيان جنيف1». هذا البيان يمثل العقبة الأولى للقوى التي تسعى بالعمق لإفشال الحل السياسي، لكونه وضع الأساس لذلك الحل، ولكونه الوثيقة الدولية الوحيدة المتوافق عليها في الشأن السوري حتى الآن. الحديث عن «موسكو-1» يعني العودة إلى المربع الأول، ونسف كل الجهود التي بذلت في طريق الحل السياسي.

«مصطلحات بائدة» - فلاشات

شهد عام 2014 اختفاء عدد لا بأس به من المصطلحات والمفردات التي انتشرت كالنار في الهشيم على حساب الارتفاع المطرد في معاناة وآلام ودماء السوريين. فربما كان من طرائف الأزمة السورية، على مرارتها، هي جملة الاصطلاحات الإعلامية التي أنتجها الإعلام المحلي والعربي وأعاد تدويرها مراراً وتكراراً عبر سنوات الأزمة، ومعظم هذه المصطلحات ما لبثت أن خرجت من التداول بعد أن فقدت قدرتها على التأثير بانكشاف مدى سطحيتها وعدم قدرتها على توصيف الواقع. الطريف أيضاً أنّ «الجبهتين» الإعلاميتين المتناقضتين، ودون وضع إشارة مساواة فيما بينهما، تبادلتا قسماً واسعاً من هذه المصطلحات في عمليات استيراد وتصدير متبادل، الأمر الذي يكشف في أحد جوانبه عن جوهر متشابه هو الرغبة باستمرار المعركة بإحداثياتها العسكرية وتسويف حلها السياسي قدر المستطاع..

من بين تلك المصطلحات على سبيل المثال، «المندس» المصطلح الذي عبر ضمنياً في مرحلة مضت عن شرعية الحركة الشعبية عبر الاعتراف بأنّ من يقوم بالتخريب ليس من صلبها بل متسلق عليها ومندس بين صفوفها، ولكن المصطلح ذاته أمن الذريعة لانطلاق «الحل الأمني» الذي بقي مقابل انتهاء استخدام كلمة «مندس» بعد أن أدت وظيفتها، بما يشي بأن الكل أصبح «مندساً»  و«مخرباً» الأمر الذي ترافق مع صعود مصطلح «المؤامرة»..

و«المؤامرة» هذه رواية بذاتها.. ففي الوقت الذي حاول فيه الإعلام الرسمي وشبه الرسمي رد أسباب الحركة الشعبية إلى الأدوار الخارجية عبر مقولات «500 ليرة للمتظاهر» و«الحبوب» و«السندويش المزود بالمخدر» وما إلى ذلك، مسخفاً ومسفهاً إلى أقصى الحدود الممكنة العوامل الداخلية المتراكمة من فساد وفقر وظلم، عمل الإعلام المضاد على بناء «مؤامرته» الخاصة التي نفى فيها كل دور لأعداء سورية التاريخيين وكل أثر لتدخلاتهم، لينتقل في مرحلة تالية إلى اعتبار الأرض بأكملها ومعها النظام السوري متآمرين على الشعب السوري..! فلا هذا صدق ولا ذاك، وإن كان كل منهما ضخم «مؤامرته» بالاستعانة بمصطلحات الآخر وفيديوهاته وشهوده العيان ومندسيه وشبيحته والخ.  

بالتوازي مع «المندس» ظهر «الشبيح» الذي أريد من وجوده وتكريسه وتظهيره تغييب الصفة الطبقية للقمع الذي مارسته الأجهزة الأمنية لحساب صفات أخرى ذات طابع محلي وطائفي، بما يصب في نهاية المطاف بتحوير شكل الصراع القائم نحو الشكل العنفي المسلح الذي يضمن ضرب المفقرين بعضهم ببعض ليوفروا المنصة المناسبة للتقاسم وإعادة التقاسم بين الناهبين.

أما «شاهد العيان» الذي كان «سمت الحقيقة ومعيار المصداقية»، تحول إلى مهرج بائس لا يجد لنفسه مكاناً على أي من الشاشات، ولا يجد من يلقي له أذناً صاغية. «التضليل الإعلامي» غدا مصطلحاً محرجاً وبائساً رغم أنه أكثر المصطلحات صدقية، ولكن بالتأكيد ليس وفقاً للطريقة التي استخدم بها، حيث لم تبق فضائية على الجانبين إلا وتم توثيق تضليلها للناس بالصوت والصورة مرات متتالية..

«توحيد المعارضة»

تعود نغمة «توحيد المعارضة» إلى حيّز التداول. هذه النغمة القديمة والمتجدّدة مع كل تقدّم في طريق الحل السياسي، تعاني كـ«شعار» من تدنٍّ كبير في محتواها، فهي لا تعكس فقط النزعة «الترأسية» لبعض قوى المعارضة التي تتبنّاها، والتي كانت تسعى فيما مضى إلى احتكار تمثيل المعارضة وحصره بطرفٍ بعينه. هذا السعي الذي أصبح الآن خارج إطار التداول موضوعياً رغم آمال البعض بالتمسك به والإبقاء عليه. إنّ الوقائع أثبتت أنه لا يمكن التعبير عن واقع المعارضة السورية المتعدّد والمتنوع بدرجة عالية من التعقيد بتكوين سياسي واحد، ومن جهة أخرى فإن بعض القوى المرتبطة بالخارج والمحسوبة على المعارضة لديها دائماً مهمة تفشيل أي تنسيق بين قوى المعارضة. وبكلمة أخرى فإن طرح مثل هذا «الشعار»، غير القابل للتحقيق، يهدف إلى وضع العصي في عجلات الحل السياسي، ولا تخلو الساحة هنا من بعض قوى المعارضة التي تحلم فعلاً بتوحيد قوى المعارضة تحت عباءتها لتحسين وزنها اللاحق، علماً أنّ الميل الموضوعي الذي يتعزز باستمرار هو الميل نحو التجميع وليس التوحيد.