«تحرير التجارة».. الاقتصاد والمجتمع السوري في مهب رياح الخارج

«تحرير التجارة».. الاقتصاد والمجتمع السوري في مهب رياح الخارج

تتشارك الأجندات الاقتصادية لاتفاق واشنطن، والشراكات الإقليمية العالمية كافة، ومنها الأوروبية السورية، الأوروبية المتوسطية، حتى العربية العربية، وحتى مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرحه بيريز عقب اتفاقيات أوسلو، واستراتيجيات الأمن القومي الأميركي في منهج الليبرالية الجديدة وما يتبعه من ضرورات وأولويات للفكر والممارسة الاقتصادية وطرح الحلول الوحيدة على منظومة دول العالم النامي لعولمة كل من لم يتبع الركب بعد، 

رافعة شعارات تحفيز النمو، توسيع السوق، زيادة التشغيل، الاندماج والمواكبة، النقل التكنولوجي، ومبطنة هدفاً واحداً هو تمديد عمر المنظومة العالمية المتهالكة عن طريق توسيع شرايين امتصاص الثروة العالمية، وفتح ما لم يفتح بعد.

ولم يخف مآل هذا الإصلاح ولا الغاية منه على وكالات تسويق وتسيير أعمال العولمة الاقتصادية في سورية، إلا أنه خفي على أصحاب العشوائية واللامنهجية، فانجروا وراء ضرورات دمج الاقتصاد السوري، مع سقوط مشاريع التنمية المستقلة الذاتية، وأبهرتهم الندوات الدولية الناصعة حول التنمية في الدول النامية وشرط تكبير قوى السوق وتقزيم دور الدولة مع كل الإجراءات الفرعية اللازمة...

واحتل شعار تحرير التجارة مكان الصدارة في القول والفعل لدى أصحاب الدفع الرباعي نحو اقتصاد السوق الحر، وكانت الغاية إحراج المؤسسات الدولية كمنظمة التجارة العالمية التي تقول بأن انضمام الدول النامية يسمح بتمديده إلى آجال زمنية متوسطة لحماية الاقتصاد المحلي من التدهور الناتج عن التحرير... فكان من دعاة الليبرالية في سورية أن وقفوا على يمين اليمين الليبرالي محققين زمناً قياسياً في إزالة كافة القيود على التجارة الداخلية والخارجية، معلنين أنهم غير آبهين بالتدهور الناتج، أو معلنين استعداد الشعب السوري والصناعات الوطنية والزراعة المحلية والنشاط الاقتصادي لتحمل كافة أعباء فتح السوق السورية لكل مؤسسات وفروع النظام العالمي، من مال الخليج إلى المنتوجات العربية والصينية والتركية والإيرانية والأوروبية والأميركية... ومن يعلم؟ ربما قد نصل إلى غاية الشراكة الأورو- متوسطية في جعل المتوسط واحة للسلام والاستقرار و«التطبيع»..

قد يكون من المفيد تناول تحرير التجارة في سورية كأهم بنود الإصلاح الاقتصادي الليبرالي، لتوضيح مدى تقاطع هذا الإجراء مع التدهور الحاصل في مستوى معيشة المواطنين، وفي إجمالي الواقع الاقتصادي السوري، وهو ما يساعد على توضيح موقفنا الحازم تجاه السياسات الليبرالية وضرورة نسفها، والتراجع عنها...

جرى تحرير التجارة الخارجية في سورية خلال فترة تمتد بشكل تقريبي من آب 2007، وحتى أيار 2008 ، مع إعلان وزير الاقتصاد حينها إتمام تحرير التجارة في سورية. تم خلال هذه الفترة السماح باستيراد ما يزيد على 20 ألف نوع من السلع كانت خاضعة لقيود في استيرادها، بالإضافة إلى تغيير كبير في بنية السياسات الجمركية، وتغيير جذري في آلية دور الدولة وعلاقتها بالسوق السورية.

ماذا يشمل تحرير التجارة ؟

شمل التحرير في سورية الإزالة التدريجية لدور الدولة من مراقبة السوق السورية أو التدخل كلاعب فيها، وكان لهذه العملية شقان أساسيان:

- تحرير التجارة الداخلية والمتمثل بتحرير الأسعار الداخلية وتركها لقوى العرض والطلب- المفترض استبدالها صراحة بقوى الاحتكار- وقد طال سلعاً أساسية ورئيسية، أهمها الوقود الذي يمثل عصباً يدخل في أغلب الأنشطة الاقتصادية، وتخلي الدولة عن سياسات التسعير سواء مباشرة، أو بتخفيضها لمبالغ الدعم المقدمة لمنتجات أساسية، وصولاً لإلغائها كلياً عن بعض المواد التي كانت مدعومة.

- تحرير التجارة الخارجية وهو ما يتعلق بالرقابة على دخول السلع وخروجها، وكذلك على حركة رؤوس الأموال داخل وخارج سورية، وهو ما أعلنت الحكومة السورية السابقة على لسان وزير اقتصادها في عام 2008 الانتهاء من العمل به، أي تحرير التجارة في سورية من أي قيد أو شرط باستثناء قائمة من السلع المحظورة عالمياً يمنع استيرادها إلى سورية، وإزالة القيود على حركة رؤوس الأموال والسماح بدخول وخروج الأموال والأرباح..

هذا فيما يخص الممنوع، أما المسموح استيراده فقد خضع لتسهيلات تخفي ض التعرفة الجمركية بنسب عالية على جميع السلع، وهو ما تتضمنه الاتفاقيات الدولية تحت راية فتح الأسواق العالمية..

في الصناعة:

اتبع الاقتصاد السوري منهجية سابقة تقوم على مراقبة الدولة للتجارة الخارجية بما كان يتناغم مع التعامل مع الاقتصاد السوري على أنه اقتصاد يسعى للوصول إلى مستوى أفضل من التصنيع والاستقلال، ويقوم على سياسة دعم الصادرات، ودعم صناعات الإحلال مكان الواردات، فكانت هذه التشريعات توظف في خدمة الإنتاج المحلي، من صناعات القطاعين العام والخاص، فتعمل على عزل هذه الصناعات عن المنافسة العالمية، وذلك بتقييد استيراد السلع المنتجة في الداخل السوري، ومراقبة ما يدخل السوق السورية وتوجيهه عن طريق المنع أو فرض الرسوم الجمركية بشكل مدروس ومتكيف مع حاجة القطاع الصناعي. فكان هذا الانتقال المفاجئ نحو فك الالتزام عن الصناعات الوطنية، وإلغاء كل أشكال الدعم والحماية لها بعد المساهمة الفعالة في تعطيلها ودفعها نحو التكلس والدخول في دورات الفساد والخسارة، بمثابة نقطة النهاية لكثير من الورش والصناعات الوطنية سواء في القطاع العام أو الخاص، وما نتج عنه طيف واسع من البطالة وخروج حرف وصناعات كاملة من دائرة المنافسة مقابل ما يتوافد من واردات صناعات احتكارية إقليمية ودولية

في الزراعة :

القطاع الزراعي في سورية الذي نال عناية خاصة أمنت نسبياً مستوى معيشة جيد للفلاح، وأمنت سياسات دعم المحاصيل، وتحديداً الاستراتيجية منها، حداً جيداً من الاكتفاء الغذائي، حررت أسعار المواد الزراعية سواء المنتجات أو العناصر الداخلة في الإنتاج الزراعي، ونتج عن ذلك احتكارات واسعة في قطاع تجارة الجملة والتجزئة وما يترتب عليه من اضطهاد للفلاحين بسعر طلب الجملة المحدد احتكارياً، ونهب القوة الشرائية للمواطن عن طريق سعر عرض التجزئة المحدد احتكارياً أيضاً.. ولا يجهل أحد ما شهدته المرحلة السابقة من آثار اجتماعية عميقة طالت قطاع الزراعة والمزارعين وصلت إلى حد الهجرة وترك الملكيات دون إعادة إنتاجها وتحول الفلاحين مالكي الأراضي إلى عمال زراعيين ينشدون قوت يومهم، مقابل ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية.

ارتفع مؤشر الرقم القياسي لأسعار الغذاء (متوسط ارتفاع أسعار الغذاء) : 112عام 2001، حتى 148 عام 2009.

واردات الدولة:

تحرير التجارة بشقيه، طال واردات الدولة من مواقع متعددة بداية من التراجع الكبير في واردات الدولة الناجمة عن إلغاء وتخفيض التعريفات الجمركية، حيث انخفضت نسبتها بالمتوسط: من 13% - إلى 6%.

بالإضافة إلى الخلل في الميزان التجاري في سورية، والذي انتقل من حالة الفائض إلى حالة العجز المتزايد، وهو ما نتج بشكل مباشر عن التراجع عن سياسات دعم الصادرات الصناعية وفتح باب الاستيراد على مصراعيه.

بالإضافة إلى تراجع الفوائض الاقتصادية للقطاع العام نتيجة المنافسة التي يشهدها، ونتيجة الاتجاه نحو خصخصة الشركات الرابحة تحديداً. وعلى الرغم من هذا الاتجاه تبقى فوائض القطاع العام الاقتصادي تشكل المساهم الأكبر في الواردات الحكومية. أما من حيث الواردات الضريبية فالاتجاه المعلن نحو زيادة التحصيل الضريبي ومكافحة التهرب يتناقض مع سياسات جذب الاستثمار والإعفاءات الضريبية الواسعة المطلوبة، ويتناقض منطقياً مع الاتجاه نحو إضعاف دور الدولة الاقتصادي والإشرافي على الأسواق وما يترتب عليه من توسع في هيمنة السوق وسيادة اللاعبين الرئيسيين فيها على القرار الاقتصادي وعلى الالتفاف عليه أيضاً، وهو ما توضحه أرقام الفساد الكبرى الناجمة عن التهرب في القطاع الخاص.

مؤشرات التراجع السابقة قد تظهر عند الدراسة التحليلية البسيطة أو المعمقة لأثر أي بند من بنود الإصلاح الليبرالي، كالخصخصة، أو الاستثمار الأجنبي، أو غيرها.. إلا أن تحرير التجارة كان الخطوة الأسرع والأوضح في «الإصلاح السوري». قد يقول قائل إن المشكلة ليست في التحرير وإنما في ضعف الصناعة، أو في اتخاذ الإجراءات بسرعة، ونحن نقول: نعم، الصناعة الوطنية هشة وضعيفة وغير قادرة على المنافسة، وهذا يتطلب إنقاذها وحمايتها مع إعطائها كل عوامل القوة والبناء، وليس إعلان موتها والتخلي عنها وتركها لقوانين الاحتكار الحر. ومن الصحيح أننا لا نستطيع الانعزال عن مجريات الاقتصاد العالمي وواقع منظومته، ولكن هذا يتطلب منا رؤية واضحة وثاقبة لدور الفكر الاقتصادي الليبرالي في  خنق الاقتصاد الوطني ومدى الشراسة التي تواجه بها النماذج البديلة، ويضعنا أمام معركة يبقى الحل الوحيد فيها إن عاجلا أم أجلاً الانعزال عن النظام العالمي وخلق نماذجنا الوطنية في النمو والعدالة، ومنها خلق قدرتنا على التعامل مع النظام العالمي المأزوم وفرض معطياتنا عليه.