التغيير الجذري و الشامل و العلاقات الاقتصادية مع «الغرب»

التغيير الجذري و الشامل و العلاقات الاقتصادية مع «الغرب»

في سياق تعقد الأزمة الوطنية الكبرى والانشغال بما فرضته الأزمة من تعقيدات على تفاصيل الحياة اليومية، بالإضافة إلى تركيز أطراف الأزمة لخطابهم على نتائج الأزمة، جرى نسيان وتناسي موضوع الأزمة بحد ذاته والمتمثل باستنفاذ بنية النظام السياسي الاقتصادي والاجتماعي لدوره مما يفترض العمل على تغييره بما يتناسب مع مستوى حاجات وتطور المجتمع. إن إحدى القضايا الأساسية في موضوع التغيير الضروري الجذري والشامل  في سورية هي النموذج الاقتصادي  الكفيل بتحقيق مصالح أبناء الشعب السوري بالتقدم والتنمية والعدالة الاجتماعية.

إن مناقشة النموذج الاقتصادي المطلوب تفترض بحث مسألة العلاقات الاقتصادية الدولية والإقليمية الضرورية التي تخدم هذا النموذج وتصب بعملية التغيير المنشودة. فكل عملية شراكة اقتصادية بين طرفين، تتضمن مجموعة من الاتفاقات الاقتصادية، التي يجري بموجبها تقديم كل طرف لحزمة من التنازلات، مقابل الحصول على حزمة  من المزايا. إن طابع وحجم التنازلات والمزايا التي يقدمها ويحصل عليها كل طرف تتعلق بجملة من العوامل الاقتصادية والسياسية وتناسب القوى بين الطرفين. في هذا السياق يطرح سؤال : أي شراكة اقتصادية دولية وإقليمية تخدم النموذج الاقتصادي الذي يحقق مصالح غالبية الشعب السوري ؟؟

أي نموذج اقتصادي ؟

يسود اليوم  إجماع كبير بين اقتصادي التنمية الجدية  ( Robert Wade، Alice Amsden، Ha-Joon Chang..) على أن عناصر النموذج الاقتصادي الكفيل بتحويل بنية الاقتصاد الوطني من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي ذي معدلات إنتاجية عالية كفيلة بخلق إمكانية الرفع المستمر لمستوى الدخل:

-  وجود استراتيجية لتحويل بنية الاقتصاد من اقتصاد ريعي خدمي إلى اقتصاد إنتاجي يفترض وجود سياسات صناعية نشيطة تهدف إلى  تطوير وخلق نشاطات اقتصادية وفق سلم أولويات وآجال زمنية بالإضافة للعمل على تحديث البنية التكنولوجية للاقتصاد الوطني، إذ أن عملية تحويل بنية الإنتاج لا تجري بشكل عفوي .

- التركيز على الاستثمار بالقطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية على أنها قاطرة النمو والتنمية.

- دور محوري للدولة بالإنتاج تحفيزا واستثمارا. تحفيزا بمعنى رعاية  القطاع الخاص بالنشاطات الاقتصادية المقيمة على أنها ذات أولوية. استثمارا أي مشاركة الدولة كلاعب اقتصادي في المشروعات الاقتصادية الكبرى من منشآت إنتاجية أو بنى تحتية أو مشاريع بحثية والتي لا  تسمح بنية  رأس المال الخاص في هذه الدول ومقدراته على القيام بها. فعلى صعيد الاستثمار أثبتت تجارب الدول النامية في الثلاثين سنة الأخيرة أنها لا يمكن أن تعول على الاستثمارات الأجنبية ذات العرض القليل، إذ أنه وحسب إحصاءات منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية فإن أكثر من 80% من هذه الاستثمارات تتركز في دول قليلة جدا لا يتجاوز عددها أصابع اليدين.

- السياسة التجارية يجب أن تكون خاضعة لإستراتيجية التصنيع، بمعنى أن الانفتاح التجاري ليس قاطرة للنمو والتنمية، إذ يتوجب أن تكون عملية الانفتاح انتقائية تخص القطاعات ذات المزايا التنافسية بالسوق العالمية. على أن دعم الصناعات الناشئة وحمايتها من المنافسة الأجنبية يجب أن يصاغ بطريقة تتفادى أن تتشكل حالة ريعية بحيث تتثبط المنشآت عن تطوير إنتاجها بسبب وجود الحماية والدعم وذلك من خلال آلية الدعم والحماية (التبادلية أو الرقابية).

- قضية الأزمة البيئية والتكيف معها تشكل إشكالية جديدة وأساسية في قضية التنمية، إذ يخشى أن تتبنى الدول النامية النمط التكنولوجي الحالي المعتمد على مدخلات طاقة عضوية، هذا النمط الذي لا بد من تغييره من أجل الحفاظ على الحضارة البشرية، مما يستوجب تغيير في كل بنية الإنتاج الحالية.

- العدالة الاجتماعية ضرورة من أجل تحقيق النمو العالي والمستدام.

بعد تحديد الملامح العامة للنموذج الاقتصادي المطلوب، يطرح تساؤل حول مدى توافق نموذج كهذا مع مختلف أشكال الشراكات الاقتصادية مع «الغرب».

الشراكة مع «الغرب» واستحالة التقدم

قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي وبعيده ساد دول العالم الثالث توجه نحو تكوين شراكات اقتصادية مع دول الغرب الرأسمالي وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إما عبر اتفاقات اقتصادية ثنائية أو اقليمية أو عبر المنظمات الدولية. قُدمت في حينها هذه الشراكات الاقتصادية والسياسات الاقتصادية التي تفترضها على الصعيد الوطني على أنها الحل السحري للمشكلات الاقتصادية للدول النامية ونقلها إلى مصاف الدول ذات مستويات المعيشة المقبولة، إذ طوّع في هذا السبيل مختلف أشكال الحجج النظرية التي قدمت على أنها «علمية»، لتظهر تجربة ثلاثين عاما تراجع مختلف مؤشرات التنمية الاقتصادية في معظم الدول النامية التي دخلت هذه الشراكات.

إن المشكلة الأساسية في الشراكة الاقتصادية مع الغرب هي في خنقها لكل إمكانات التنمية وتحويل بنية الإنتاج في دول العالم الثالث، وهو ما اصطلح على تسميته مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية بلغة دبلوماسية في مؤتمر ساوباولو 2004ب «the restrected policy space for development، وذلك  من خلال فرض دول الغرب الرأسمالي عبر الاتفاقات التجارية والمالية والنقدية معها  لجملة من القيود على إدراة السياسات الاقتصادية في الدول النامية سواء على الصعيد المالي أو النقدي أو  التجاري أو الصناعي، بحيث أصبحت سيادة هذه الدول على تلك السياسات منقوصة لا بل ممسوحة.

القيود على السياسات الصناعية والتجارية

فعلى صعيد الشراكة التجارية مع «الغرب» سواء عبر الاتفاقات الثنائية أو الإقليمية أو عبر منظمة التجارة العالمية، يتم فرض مجموعة من القيود  الصارمة على السياسات  الصناعية والتجارية تمنع على الدول النامية ممارسة وتطبيق مجموعة الوصفات التي اتبعتها الدول المتقدمة نفسها، في طور تطورها المبكر، ودول جنوب شرق آسيا ودول البريكس والتي كانت أحد عوامل تقدمها وأهمها :

-  تحرير تجارة السلع المصنعة وتخفيض الرسوم الجمركية عليها بشكل كبير يؤدي إلى وأد كل إمكانية لتطور وتقدم القطاع الصناعي الضروري جدا من أجل رفع إنتاجية الاقتصاد المعني، هذا التحرير تم من خلال الاتفاقات الثنائية والإقليمية واتفاقات منظمة التجارة العالمية عام 1994. إذ أن الدول في مراحل التطور المبكرة تحتاج إلى مستويات حماية عالية للقطاعات حديثة النشوء، وهو ما تظهره  التجارب التاريخية للدول الرأسمالية، فحسب تقرير منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية 2006 بلغ المتوسط المثقل للتعرفة الجمركية على القطاع الصناعي في الولايات المتحدة في نهاية القرن التاسع عشر أكثر من50% عندما كان متوسط مستوى الدخل السنوي للفرد الأميركي يساوي متوسط مستواه الحالي في دول العالم الثالث، بالمقابل فإن المتوسط الحالي المثقل للتعرفة الجمركية بالقطاع الصناعي في الدول النامية يبلغ 6.5% فقط !

تجدر الإشارة إلى أن الدول الأوروبية والولايات المتحدة تفرض رسوماً عالية جدا بالإضافة لقيود تجارية غير مباشرة على جزء مهم من السلع المصنعة التي تختص بإنتاجها الدول النامية (النسيج والصناعات الغذائية مثلا). يضاف إلى ذلك أنه بمقابل تحرير قطاع الصناعة لم يجر تحرير قطاع الزراعة، الذي تشكل منتجاته أهم صادرات الدول النامية، إذ تستمر الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية بفرض رسوم جمركية عالية على الصادرات الزراعية للدول النامية، بالإضافة لتقديمها دعماً ضخماً جدا لقطاعها الزراعي والحيواني.

- منع استخدام السياسات الاقتصادية والممارسات الهادفة إلى تحفيز ودعم صناعات وطنية مقيمة على أنها ذات أولوية، من خلال تقديم قروض ميسرة بفوائد منخفضة أو عبر  تقديم تسهيلات ضريبية، أو عبر حمايتها من المنافسة الأجنبية عبر فرض رسوم جمركية عالية أو تعويضها عن خسارتها الناتجة عن المنافسة. الجدير بالذكر أن كل هذه الممارسات كانت مستخدمة أيضا بدول المركز الرأسمالي بمراحل تطورها المبكر ودول جنوب شرق آسيا، على أنها ما زالت مسموحة في القطاعات التي تهم  الدول المتقدمة (البحث العملي،التكيف مع مشاكل البيئة ).

- منع استخدام مجموع الإجراءات الهادفة إلى جعل نشاطات الاستثمارات الأجنبية مفيدة للدول المستقبلة. وأهمها الإجراءات الهادفة إلى نقل التكنولوجيا  بهدف تحديث بنية الإنتاج، بالإضافة إلى الشروط التي تفرض من أجل رفع القيمة المضافة المنتجة من قبل الاستثمارات الأجنبية بالبلد المستقبل بهدف أن تتعدى نشاطاتها التجميع إلى إنتاج جزء من مكونات السلعة المجمعة.

- فرض قيود على الممارسات التي كانت وراء نقل التكنولوجيا في جزء من الدول الرأسمالية في طور تصنيعها المبكر وفي دول جنوب شرق آسيا، وعلى رأسها ما يسمى بالهندسة العكسية والتي تقوم على استيراد منتجات تكنولوجية لإدخالها بمنظومة الإنتاج الوطني عبر استنساخها وتبيئتها حسب الحاجة لها. في هذا السياق من الجدير بالذكر بأن جميع الاتفاقات التجارية الموقعة في منظمة التجارة العالمية هي تحريرية الطابع، إلا الاتفاقية التي تخص تجارة التكنولوجيا إذ أنها حمائية الطابع.

بالمحصلة إن مجموع القيود المفروضة من خلال الشراكات التجارية مع دول «الغرب» على الدول النامية لها وظيفة محددة، هي منع كل الممارسات التي استخدمتها الدول المتقدمة في سياق تطورها على الدول النامية. في هذا السياق علق الاقتصادي الالماني فريدريك لست الذي كان أحد أعمدة تصنيع ألمانيا في القرن التاسع عشر صاحب فكرة حماية الصناعات الناشئة كضرورة للتصنيع ومنتقد فكرة آدم سميث حول تحرير التجارة  «إن أكثر الأساليب شعبوية من أجل منع منافسيك من الوصول إلى القمة التي بلغتها، هي التعتيم على مجموع الممارسات والسياسات التي أوصلتك إليها» إلا أن دول المركز الرأسمالي اليوم تجاوزت التعتيم إلى المنع.

العلاقات المالية مع «الغرب»

أما على صعيد القروض المالية الممنوحة من دول المركز الرأسمالي أو من المؤسسات الدولية التي تسيطر عليها مثل البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي والمقدمة على أساس سعر فائدة متغير (هذه مشكلة بحد ذاتها)، تفرض على الدول المستفيدة حزمة من الشروط مصاغة ببرامج اصطلح على تسميتها ب»برامج التكييف الهيكلي» والتي أثبتت فشلها في تحقيق التنمية، لا بل العكس أثبتت دورها في تعميق تخلف وزيادة الضغوط الاجتماعية في كل الدول التي طبقت بها وهو ما أصبح متفقاً عليه اليوم حتى من كبار الاقتصاديين الليبراليين من جوزيف ستيغلتز إلى داني رودريك ..إلخ، اذ تفرض هذه البرامج :

-  إلغاء الدور التنموي والاجتماعي للدولة من خلال خصخصة منشآتها الاقتصادية وتخفيض إنفاقها مقابل رفع ضرائبها على النشاطات الاقتصادية المتوسطة. بالمقابل تم تحويل دور الدولة إلى دور حام للنشاطات الاقتصادية الريعية بالإضافة إلى تحويلها لعبد للاستثمارات الأجنبية التي لا تأتي وإن أتت فاستثماراتها تتركز في قطاعات خدمية غير إنتاجية في معظم الدول النامية، وإذ ما استثمرت بقطاعات الإنتاج الحقيقي تتم إعادة تدوير أرباح إنتاجها إلى المركز الرأسمالي.

- فرض تحرير التجارة في قطاعات بعينها، وعادة ما تكون القطاعات المطلوب تحريرها ذات طابع استراتيجي  ومنافسة لمثيلاتها بالدول المانحة أو الدول المسيطرة على المؤسسات الدولية المانحة (مثل شرط تحرير تجارة قطاع السيارات في اندونيسيا عشية أزمة عام 1997).

- التغيير «الهكيلي» لسوق العمل من أجل جعله أكثر «مرونة» (مرونة باتجاه تخفيض الأجور فقط وليس رفعها). الأمر الذي أدى إلى ضرب الطلب الداخلي وجعل الطلب على الإنتاج الوطني مرتبطاً بالغرب وتقلباته وأزماته مما جعل الإنتاج غير مستقر، بالإضافة إلى ازدياد مستويات الاحتقان الاجتماعي والأزمات السياسية نتيجة ازدياد حدة التفاوت الطبقي.

- العديد من قروض صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى تمنح أثناء مرور الدولة الممنوحة في أزمة اقتصادية أو مالية. إن الشروط التي ترافق هذه القروض والمتعلقة بالسياسات النقدية والمالية، تفرض سياسات ذات طابع انكماشي في حين أن الاقتصاد المعني بحاجة إلى سياسات تحفيزية عبر زيادة الإنفاق الاستثماري أو الاستهلاكي، مما يؤدي إلى تعميق الأزمة (كما يحدث اليوم في اليونان ودول جنوب أوروبا). يضاف إلى هذا مشكلة توقيت منح القرض، إذ يعتمد منطق مؤسسات الغرب الرأسمالي في منح القروض على ترك الأزمة تتفاقم في الدولة المعنية وحجب القروض عنها إلى أن تصل الأزمة إلى ذروتها، حتى تصبح الدولة بحاجة لقروض أكبر ومستعدة لتقديم التنازلات أكبر مقابل منح القرض.

 خاتمة

بالمحصلة إن مختلف أشكال الشراكة الاقتصادية مع «الغرب» الرأسمالي تمنع وضع النموذج الاقتصادي الكفيل بتحويل بنية الاقتصاد المعني حيز التنفيذ، لا بل أكثر من ذلك إذ تقوم بإفراغ النظام السياسي الديمقراطي للبلد المعني من محتواه إذ تفرض على أي حزب سياسي يصل السلطة احترام هذه الاتفاقيات وإلا مواجهة مختلف أشكال العقوبات الاقتصادية والسياسية وما يترتب عليها من اضطرابات سياسية داخلية.

عليه لا يمكن المرور بشكل عابر على التوجهات السورية  الأخيرة للقطع مع «الغرب» والتوجه «شرقا»، الأمر الذي تم تحت ضغط الأمر الواقع بالنسبة لقوى داخل النظام نتيجة مقاطعة الغرب، ونتيجة الضغط السياسي واشتراط جزء من قوى المعارضة الجذرية المتمثلة بالجبهة الشعبية للتغيير الدخول بحكومة توافقية بتغيير التوجه الاقتصادي والشراكات الاقتصادية الدولية والإقليمية من ضمن مجموعة اشتراطات أخرى. إن الشراكة مع دول الشرق والجنوب تحمل كمونا تقدميا ثوريا كبيرا بالنسبة للاقتصاد السوري إذ ما كانت موظفة ضمن نموذج يهدف إلى تحويل بنية الاقتصاد السوري نحو اقتصاد منتج لتحقيق أعلى نمو وأعمق عدالة. إذ تؤمن هذه الشراكة الأسواق اللازمة لتصدير المنتجات الوطنية ومصادر لجميع أنواع السلع التي لا ينتجها الاقتصاد السوري، بالإضافة إلى الميزات النسبية للاتفاقات المالية مع هذه الدول مقارنة مع مثيلاتها من دول الغرب، وإمكانية نقل التكنولوجيا، كل ذلك دون فرض قيود على السيادة الوطنية على السياسات الإقتصادية. إن هذا التوجه إذا ما تم استكماله سيكون محصلة لدماء الشعب السوري كل الشعب السوري في طريق نضاله من أجل تحقيق كرامة الوطن والمواطن.