حول ترابط المهام

حول ترابط المهام

إن برنامج وممارسة أية قوة سياسية لا بد أن تتناول وتشمل ثلاث قضايا أساسية مترابطة ومتداخلة هي القضية الاقتصادية- الاجتماعية بما تعنيه من مجموع الرؤى والممارسات التي تتناول كيفية معالجة المشاكل الاقتصادية للبلد المعني ولمصلحة أي من القوى الاجتماعية، قضية شكل النظام السياسي بما يعنيه كيفية ضبط علاقة الجماهير والأحزاب وجهاز الدولة بعضها ببعض، وأخيرا قضية السياسات الخارجية المتمثلة بطابع التحالفات السياسية على الصعيد الدولي و الإقليمي. المشكلة الأساسية التي تُتلمس بواقع العمل السياسي هي عدم تناسق و تناقض الممارسات والمواقف المتبناة والمتبعة بين هذه القضايا الثلاث. إن غياب هذا الاتساق والتناقض عند قوة سياسية ما يعزى إما إلى بنيتها و تركيبتها الاجتماعية المتناقضة، أو إلى قصور بوعي ترابط هذه المسائل الثلاث وشكل الترابط الملموس الذي يحقق مصالح الجماهير التي تمثلها القوة المعنية. بالإضافة إلى أن هذا التناقض بالموقف والخطاب قد يعزى، عند بعض القوى التي لم تدخل حيز التجريب منالجماهير، لأسباب ذرائعية (ديماغوجية)، إذ تعمد الكثير من القوى السياسية إلى تزيين خطابها و برامجها اليمينية بشعارات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

في سياق ارتفاع مستوى النشاط السياسي لعموم الجماهير على طول العالم العربي و عرضه تكتسي مهمة تبيان ترابط هذه المهام الثلاث والشكل الملموس للبرنامج المتسق الذي يحقق مصالح عموم الجماهير أهمية كبرى في سبيل تجاوز الخطاب السياسي السائد، والذي يميع و يعوم جوهر العمل والصراع السياسي و يختصره إلى مجموع من القضايا الشكلية والمسطحة.

القضية الاقتصادية- الاجتماعية :

إن موضوع عمل الأحزاب السياسية وهدف صراعاتها هو الوصول إلى السلطة السياسية من أجل إدارة المجتمع من خلال التحكم بجهاز الدولة. إن جوهر وظيفة السلطة السياسية يشتق من وظائف جهاز الدولة الأساسية التي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة محاور أساسية مترابطة وغير منفصلة بالواقع :

- تحديد الإطار الذي يتم من خلاله تنظيم عملية إنتاج الثروة بما يتوافق مع مصالح القوى التي تسيطر على جهاز الدولة، سواء كان طابع هذا التنظيم مركزيا مضبوطا من جهاز الدولة إنتاجاً و تحفيزاً، أو كان متروكا  «لحرية» قوى السوق،  إذ أن عملية «تحرير» أو «مركزة» عملية الإنتاج قد تمت تاريخيا بشكل مبرمج من السلطة السياسية حتى في أعرق الدول الرأسمالية.

- تنظيم عملية توزيع «الثروة» بين مختلف القوى و الشرائح الاجتماعية.

- ضبط الصراعات الاجتماعية، قمعا و توافقا، الناتجة عن طابع تنظيم الإنتاج و عن شكل توزيع الثروة.

قضية شكل النظام السياسي أو القضية الديمقراطية :

إن مسألة ضبط الصراعات الاجتماعية تنقلنا إلى القضية الأساسية الثانية في ممارسات  وبرامج القوى السياسية، إذ أن أهم أدوات ضبط هذه الصراعات هو النظام السياسي والذي جوهر وظيفته تاريخيا هو ضبط العلاقة بين مكونات كل من جهاز الدولة ،الشعب والأحزاب السياسية، بالإضافة إلى ضبط علاقة هذه المكونات بعضها ببعض. إذ يتم عبر النظام السياسي تحديد المعايير والأسس الضابطة للعلاقة بين :

- الشعب والسلطة، أي تحديد لمن يحق الوصول للسلطة (نظام ملكي، ثيوقراطي، شعبي).

- الجماهير وتمثيلاتها السياسية من أحزاب و قوى سياسية، أي هل تقوم هذه القوى بتمثيل جماهيرها على أسس برنامجية اقتصادية وسياسية عابرة للانتماءات الدينية و الإثنية و الثقافية لجموع الشعب، أم أنها تسمح بتشكيل  أحزاب على أسس ثقافية و أثنية و دينية تقود إلى إصطفافات سياسية وهمية تحرف شكل تجلي الصراع السياسي عن جوهره الاقتصادي-الاجتماعي.

- مكونات  جهاز الدولة  بعضها مع بعض، من سلطة تشريعية وتنفيذية و قضائية، بالإضافة لضبط العلاقة بين السلطة السياسية أو الحزب السياسي الحاكم بجهاز الدولة و مكوناته.

قضية العلاقات الخارجية أو القضية الوطنية :

إن مسألة اختيار النموذج الاقتصادي و شكل النظام السياسي في أي بلد لا تعتمد فقط على موازين القوى الداخلية ومستوى وعي الأحزاب السياسية لمصالح الفئات والطبقات الاجتماعية التي تمثلها، إذ تتموضع السلطة والقوى السياسية في البلد المعني ضمن نظام دولي متشابك ومتناقض العلاقات السياسية و الاقتصادية والتي تتسيد إدارتها قوى كبرى قليلة تحاول تنظيم وإعادة تنظيم تلك العلاقات على صورة مصالحها. إذا فإن عملية اختيار النموذج الاقتصادي  والسياسي لا يمكن أن تتم سوى عبر التفاعل مع القوى الكبرى، تفاعلا يتجلى توافقا أو تناقضا تعتمد شدته وحدته على:

-  طابع النموذج الاقتصادي والسياسي المتبنى و مدى تطابقه و تناقضه مع مصالح تلك القوى.

- حجم الدول المعنية وموقعها بالتأثير على العلاقات الاقتصادية السياسية الدولية.

الخلاصة :

إن طابع تنظيم الإنتاج وتوزيع الثروة وما ينتج عنهما من صراعات اجتماعية (القضية الاقتصادية-الإجتماعية)، يفترض شكل نظام سياسي يتطابق معه ويخدمه وينظم الصراعات الناتجة عنه بحيث يضمن تطوره وديمومته (وديمومة تماسك المجتمع) (قضية شكل النظام السياسي أوالقضية الديمقراطية). وإن اعتماد النموذج الاقتصادي السياسي لا يمكن أن يتم سوى عبر التفاعل مع القوى الخارجية الكبرى توافقا إذا كان يخدم مصالحها، وصراعا إذا كان يتناقض مع مصالحها(قضية العلاقات الخارجية أو القضية الوطنية).