الحوار خيار وطني بإمتياز
د. عفيف رحمة د. عفيف رحمة

الحوار خيار وطني بإمتياز

في مواجهة الأزمة التي تزداد عمقاً وثقلاً على مختلف طبقات الشعب، لم يعد مقبولاً تسخيف الحدث ممن لم يدرك بعد فداحة الحدث، كما لم يعد مقبولاً إستغلال الصداقات الإقليمية والعالمية لتأجيل الحلول الجذرية العميقة والشاملة، ويخطيء خطأ فادحاً من يعتقد أن متغيرات دولية قادمة في القريب العاجل ستحدث إنقلاباً في موازين القوى العالمي ينهي الأزمة ويفقد التغيير شرعيته وحتميته

لقد بدأت المصداقية الوطنية تستلزم الوقوف أمام حقائق الواقع السوري والتعامل معه بجرأة وشجاعة دون النظر بمنظار الربح والخسارة، هي خطوة وطنية بإمتياز بات الجميع أحوج إليها للبحث عن مخرج يضمن سلامة الوطن وبنائه الإجتماعي.

ولعل أولى هذه الحقائق ما يتعلق بعمق الأزمة وطبيعتها، فليست هي بأزمة عابرة بل أزمة وطنية كبرى ذات جذور طبقية وتاريخية، تلعب فيها القوى الخارجية والإقليمية دور المستثمر الذكي لواقع متأزم كان لها الباع الطويل في تطويره وإنضاجه على مدى سنوات، من قريب ومن بعيد بالشكل الذي يحقق مصالحها الستراتيجية.

حقيقة ثانية ترتبط بالموقف من القوى الخارجية الفاعلة في الازمة، فقد أخطىء من إعتقد يوماً أنه يمكن أن تقف المنظومات السياسية في الغرب الرأسمالي من سوريا موقفاً مبدئياً يتساير مع مصالح الشعب السوري، وأخطىء من اعتقد أنه بالمستطاع تحت أي مسمى استمالة هذا الغرب ليكون داعماً لنهضتنا الوطنية، فالموقع الجغرافي لسوريا يضعها موضوعياً على تناقض تام مع هذه المنظومات السياسية التي لا تسمح لها بنيتها الإقتصادية إلا أن تبقى سوريا بشكل دائم ومستمر في دائرة المشاريع الإستعمارية، كما لا تسمح لها طبيعتها الساسية إلا أن تتعامل مع قضايانا من موقع الوصاية أو الخصومة وليس من موقع الشراكة والمساواة.

لقد راجع الغرب جدوى سياساته القديمة وعاد ليؤكد حضوره مجدداً في المنطقة عبر سياسات إستعمارية هادئة قليلة الكلفة طويلة الأمد ممنهجة وفق واقع الشعوب وبناءها السياسي الإقتصادي الثقافي والإجتماعي، سياسات إستعمارية لا يردعها سوى سياسات وطنية مبدئية قائمة على أسس طبقية تكفل الدولة من خلالها حماية مصالح الفئات الشعبية التي لا وطن لها سوى وطنها ولا قوت لها من غير خيرات الوطن.

سياسات مبدئية إبتعد عنها نخبة من محترفي السياسية الذين ما عرفنا عنهم يوماً غير الهروب المستمر من فشلهم السياسي والإختباء وراء ثنائيات الخير والشر، الملائكة والشياطين حيث نظرية المؤامرة حاضرة دوماً، متجاهلين أن مشاريع الغرب الإستعمارية ليست بجديدة وليست بطارئة بل هي المكون الأساسي من طبيعتها البنيوية.

عيب هذه النخبة أنها في قراءاتها السياسية تجاهلت الطبيعة الموضوعية للغرب الراسمالي، وتناست أن هذا الغرب لم يمد يده يوماً إلينا إلا ليأخذ منا، فلماذا نلقي اليوم باللائمة على هذا الغرب اللعين الذي ما عرفنا منه عبر التاريخ موقفاً في صالح القضايا الوطنية لشعبنا.

أما الحقيقة الثالثة فتمس طبيعة قسم من المكون الشعبي المساهم في تعقيد الأزمة، فهل كان حراكه عفوياً أو تآمرياً، سلمياً أو مسلحاً، فوضوياً أو مسيساً...، تساؤلات مشروعة كان ولازال من الممكن تفكيك رموزها السرية للتقليل من فداحة الأزمة الوطنية التي نعيشها.

لقد بات واضحاً البعد الطبقي والإجتماعي لطبيعة هذا المكون الذي ساهمت بتكوينه السياسات والممارسات اللامبدئية المتبعة عبر عقود، حيث كان من الممكن، عبر إصلاحات عميقة وشاملة، التحكم بكمونه وحراكه الثائر ومن إحتمالات توجهه نحو العنف لسد الطريق أمام مشاريع الغرب (المكون الخارجي) الذي لا يترك فرصة سانحة إلا ويستثمرهما لمآربه السياسية.

كان يفترض من السلطة، بصفتها الإعتبارية ومن موقعها المالك للحقائق الميدانية، الإسراع بتنفيذ هذه الإصلاحات العميقة والشاملة، لكن ولأن ثنائية الخير والشر المتجذرة في الوعي الجمعي الذي يجد دائماً في نظرية المؤامرة التفسير المناسب لكل الإخفاقات الفردية والجمعية، وفي محاولة للقفز فوق حتميات التاريخ تمّ استثمار هذه النظرية لدفع الشبهة عن ضعف الرغبة بالتغيير السياسي ومحاولة إطالة حضور المادة الثامنة تحت صيغ واشكال مستحدثة لكنها مفضوحة.

محاولات بائسة فتحت الباب واسعاً لتحرك مجموعات إختارت أن تقف أن تنحى نحو البربرية والهمجية، نحو الفوضى والإستهتار بالأرواح والقيم، ودفعت مجموعات أخرى نحو (ثورة) ثأرية وحراك شعبي (حاقد) إرتكز مع تطور الأحداث على ما «يبرر» إرتهانه للقوى الخارجية التي وجدت في الواقع السوري المنصة المناسبة لتنطلق منها في رحلة تحقيق مشاريعها الاستراتيجية.

ضمن هذه الظروف نمت بيئة شعبية واسعة إحتضنت هذه المجموعات ظناً فيها أنها ستحمل لها الخلاص من الإهمال والتهميش وستنقذها من الفقر والبطالة، وهل كان ينتظر من هذه الجموع التي عانت من البؤس اشده أن تستسلم بطريقة صوفية لسياسات وضعت حاضره ومستقبله في مزاد مراهنات الإنفتاح السياسي والإقتصادي الذي لفظته المجتمعات الناضجة، سياسات لم تصب يوماً إلا في إناء فئة ضيقة جداً لطالما إستثمرت السلطة لتصنع من سوريا حقلاً لمشاريعها الخاصة.

ورغم أن الحوار الصادق مع عامة الشعب كان السبيل الوحيد لمنع هذا الإنزلاق الكارثي لأوسع شرائح المجتمع السوري، إلا أن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث، ظناً بأن قاعدة الحكم ومن خلال تجاربها السابقة قادرة على تجاوز الحدث وتلافي آثاره التي يتضح اليوم كارثيتها.

أزمات إقتصادية متنامية، إنقسام وطني حاد، ضياع وتخبط سياسي، سذاجة إعلامية ومعرفية، سوء إستثمار للطاقات الشعبية الخيرة وضياع لقوة العمل التي أخذت تجد في الهجرة الطريق القسري الوحيد الذي يضمن لها مورداً للرزق ومأوىً لأبنائها... وأمام كل هذه الوقائع تقف اليوم نخب الإمتيازات بإستعلاء وتكبر لتعبر عن إستخفافها بطبيعة الحدث.

إن أشد ما يثير القلق من مواقف هذه النخب وبعض مثقفي الدعاية السياسية أنهم ينطلقون بتقييمهم للأزمة وتعاملهم مع أحداثها من موقع فوقي استعلائي، فالأزمة في نظرهم ليست إلا قضية مواطنين قاصرين إختاروا لأنفسهم «الجهل» و«العهر» والبطالة والتبعية لا بل الطائفية والعمالة والإرتهان لأعداء الوطن.

نخب لطالما كانت بعيدة عن الهم الشعبي وحاضرة دائماً على موائد الفساد بذريعة نخبويتها، واليوم نجدها حاضرة على طاولات الحوار تحاور ذاتها وعلى منصات الإعلام تتحدث لتلقي المواعظ والخطب «الوطنية»، ولتُحمّل عامة الشعب لائمة الفساد تحت شعار «كلنا شركاء»، نخب لطالما روجت لمحاسن الغرب أو ممثليه من العرب والقدرة على ترويضهم بإستمالتهم عبر بوابة الإستثمارات المالية والإقتصادية، نخب سعت نحو مؤامرة شاركت بسذاجة في صناعتها، نخب نراها اليوم أشد بعداً عن الحوار الحقيقي، الحوار مع الجماهير المتضررة من سياسات التهميش والتي سد الأفق في وجهها فلم تجد طريقة لإسماع صوتها والتعبير عن ذاتها إلا بالعنف والفوضى.

في ظل حقائق هذه الأزمة الوطنية الكبرى نسأل هل يحتاج الحوار مع العامة من الشعب كل هذا التخططيط والترتيب وتنظيم المواعيد واالقاءات، وهل الحوار الصادق مع العامة الغارقة في الفقر نتيجة الممارسات الخاطئة والسياسات الإقتصادية المتهورة مرهون بالصراعات الدولية ويستلزم إنتظار تغير موازين القوى العالمية ليأخذ شرعيته الوطنية، أم هي محاولة تمييع لهذه القضية وتسخيف لفداحتها...؟

اسئلة كثيرة يمكن سردها في معلقات، ربما لن نجد رداً عليها، لكن ما هو أكيد أن من يختار الحوار ويعمل على تفعيله اليوم قبل الغد لا بد أن يكون وطنياً بإمتياز.