البيئة الاقتصادية - الاجتماعية للتطرف!
د. م. عفيف رحمة د. م. عفيف رحمة

البيئة الاقتصادية - الاجتماعية للتطرف!

لقد بات واضحاً أن التعامل مع أزمتنا الوطنية بفوقية مترفة، لم يخدم القضية بل زاد من تعقيدها وعمق من تشابك مكوناتها الداخلية والخارجية مما أعطى عنصرها الشعبي المبرر للاندفاع نحو مزيد من العنف والتطرف

أمام هذا الواقع المتردي لم يعد لأية معالجة جدوى إلا إذا ارتكزت على مراجعة طبقية شاملة انطلاقاً من الحقائق المادية وما أنتجته السياسات الإجتماعية والاقتصادية الجائرة من الفقر والجهل والبطالة المحركة للعنف والفوضى.

هل كانت الأمية خياراً إرادياً؟

خلافاً لما يروج له فإن الحقائق والبيانات تظهر مدى إدراك مختلف الأسر السورية حتى الفقيرة منها بأهمية المعرفة وحرصهم الحثيث على تعليم أبنائهم، حقائق لا تتمايز من محافظة لأخرى ولا تتباين بين الريف والحضر.

إن مراجعة بسيطة لبيانات المكتب المركزي التفصيلية لإحصاء عام 2006، والتي تؤكدها بيانات منظمة اليونسكو وغيرها من المنظمات الدولية التي أظهرت أن المعدل الوسطي الصافي لعدد التلاميذ ضمن السن النظامية (6 سنوات) الملتحقين بالصف الأول من مرحلة التعليم الأساسي تجاوز نسبة 94% في فترة الأعوام الممتدة بين 1991 و 2010.

أما معدل الالتحاق الصافي بالمدرسة فوصل حده الأقصى 99.5% في اللاذقية، وحده الأدنى 94% في الرقة و 93.8% في دير الزور.

أما التسرب السنوي في الحلقة الأولى، فسجل بأعلى حد له (3.7% إناث) في محافظة الحسكة، وعدم الالتحاق الكلي بالمدرسة (6.3% ذكور) في محافظة دير الزور، بينما سجل أعلى معدل للتسرب في الحلقة الثانية في محافظة حلب (31.3% إناث و 23.5% ذكور) وأعلى معدل لعدم الالتحاق بالمدرسة (10.3% للإناث و 4.3% للذكور) في محافظة الرقة.

غير أن اليونسكو تعود لتقدم لنا حقيقة أخرى تتناول المعدل الإجمالي الخام لالتحاق التلاميذ بالمدرسة (ضمناً من التحق بالتعليم بعد تجاوزه السن المعيارية) حيث يتجاوز المعدل الوسطي للحلقة الأولى النسبة 112% في الفترة الممتدة بين عام 1991 و2010، كما تجاوز معدل من أتمّوا المرحلة الابتدائية النسبة 108% خلال السنوات العشر الأخيرة (حسب ذات المصدر)، مؤشر لا بد من أخذه بالاعتبار في دحض ما ينسب لبعض الشرائح الشعبية من رفض للعلم.

ماذا يرى الريف في بناته

في الشأن الاجتماعي وحول النظرة للفتاة والمرأة لم تشر هذه البيانات (الوطنية والدولية) إلى أية نظرة أسرية تفرق تربوياً بين التلميذ والتلميذة، فمعدل التحاق الإناث بالمدرسة عام 2006 تساوى بين الذكور والإناث وتجاوز 93.5% في مرحلة الحلقة الأولى في كل من الرقة ودير الزور (المحافظات ذات التسرب الأعلى) لا بل تجاوز 98% للإناث في كل من درعا وحماة!!!، حقيقة تكررت في الحلقة الثانية مع تباين بسيط وصل الفارق فيه إلى 6% في الرقة لمصلحة الذكور، حيث لعب الفقر والحاجة دورهما في التسرب (اللذان سنبحثهما فيما بعد) قبل الأسباب الاجتماعية.

التسرب السنوي والمرحلي

لكن هذه البيانات لا تنفي التسرب السنوي كظاهرة تبدأ منذ التحاق التلميذ بالمدرسة، حتى إنهائه المرحلة الثانوية، وهي تتباين من سنة لأخرى ومن صف لآخر، ففي الأعوام الممتدة من 1991 إلى 2010، تراوح المعدل الوسطي العام للتسرب الكتلي بين 3% و7% للحلقة الأولى وبين 2% إلى 28% للحلقة الثانية، تسرب شكل كتلة هامة من التلاميذ الذين تركوا المدرسة في سن مبكرة، تجاوز معدلها الوسطي التراكمي 22% من تلاميذ الحلقة الأولى و 40% للمرحلة الثانية.

أما القفزة الحقيقية حيث تخسر المدرسة عدداً ملموساً من تلامذتها فتحصل في الفترات الانتقالية لأسباب جديرة بالدراسة، ربما تجد معززاً لها تغيير الموقع الجغرافي للمدرسة.

لقد تراوح التسرب من الصف السادس إلى الصف السابع المعدل 28% عام 1992 و 3.4% عام 2004، كما بلغ التسرب بين مرحلة التعليم الأساسي والمرحلة الثانوية المعدل 52.2% عام 1992 و 19.1% عام 2004، تسرب يضع في مقدمة أسبابه الدوافع الاقتصادية التي تعمل البرامج التربوية على كبحه أو التسريع فيه.

حركة تتراجع فيما نلحظه في السنوات الانتقالية (التاسع والبكالوريا) من مؤشرات، فمعدل المتقدمين للامتحان العام يفوق معدل المسجلين في المدارس ويتجاوزه بنسبة 10.8 % من تعداد نهاية مرحلة التعليم الأساسي (عام 2003)، ونسبة 69.5% من تعداد نهاية التعليم الثانوي عام 1991 و 0.12% عام 2009 بشكل متوازن عكساً مع سعة التسرب في الأعوام ذاتها.

هل من أسباب موضوعية؟

في عملية مقارنة لتوضيح الخلل في السياسات الحكومية نستعين بما أوضحته بيانات الحسابات القومية لمنظمة التعاون والتنمية وبيانات اليونسكو لعام 2010 (الأكثر تفاؤلاً من بيانات المكتب المركزي للإحصاء) حيث يتضح أن نصيب تلميذ المرحلة الابتدائية من الإنفاق العام بلغ 16.7% من نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي GPD، أي ما يقارب 24000 ل.س. ليقابله 12000 ل.س. في اليمن، 17500 ل.س. في الجزائر، 23000 ل.س. في المغرب، 27500 ل.س. في الأردن، 35000 ل.س. في مصر وتونس، 75000 ل.س. في لبنان، 175000 ل.س. في السعودية، و 35000 ل.س. في إيران، 85000 ل.س. في فنزويلا، 135000 ل.س. في كوبا، وبمثل التباين جاء نصيب الطالب في مرحلة الدراسة الثانوية.

أما إذا ما نظرنا لنسبة التلاميذ إلى معلمي مرحلة التعليم الأساسي فنجد أن المعدل في سورية كان شبه ثابت خلال عشرين عاماً ولم ينخفض عن 25.6 تلميذاً لكل معلم، 2010، في حين أخذ هذا المعدل القيمة 11.1 في السعودية، 13 في «إسرائيل»، 14.2 لبنان، 16 إندونيسيا، 17 في تونس، 20 في إيران، 23.2 في الجزائر، 25 في الضفة الغربية، 26 في مصر، 30 في اليمن، علماً بأن معدل 25.6 قد تحقق في فنزويلا عام 1987 وفي كوبا عام 1975.

هل للثقافة الشعبية دور في البطالة

ونخص من الثقافة الشعبية نسبة النمو السكاني فقد بلغ معدل النمو السكاني عام 2010 ما يلي: 1.28% في مدينة دمشق، 1.55% في طرطوس، 1.64% في اللاذقية، 1.67% في السويداء، 2.24% في حماة، 2.26% في حمص، 2.35% في الحسكة، 2.5% في إدلب، 2.55% في الرقة، 2.6% في حلب، 2.9% في درعا، 3.2% في دير الزور، 3.3% في ريف دمشق، و 3.6% في القنيطرة، ومعدل وسطي عام بلغ 2.45%.

فهل كان لهذا النمو المرتفع دور في الشأن الاقتصادي والتزاحم على فرص العمل وزيادة نسبة الفقر الذي بلغ 5.3 ملايين شخص عام2004 (تقرير الفقر في سورية 1996-2004).

مما لا شك فيه أن مجتمعنا بحاجة ماسة لتفعيل دور التربية والثقافة والتوعية للحد من المغالاة في التزايد السكاني الذي بات يشكل على المدى البعيد محلياً كما عالمياً عبئاً على التخطيط وسياسات التنمية البشرية، ولكن هل كان هذا العامل الفاعل الحقيقي في الأمية والبطالة والفقر في محافظات غلب عليها الطابع الزراعي؟

لننظر للكثافة السكانية في 1 كم2 وفق الترتيب السابق لمعدلات الإنجاب في مختلف محافظات القطر، فقد بلغ معدل 3030 مواطناً في مدينة دمشق و 415 في طرطوس، 435 في اللاذقية، 66 في السويداء، 158 في حماة، 44 في حمص، 64 في الحسكة، 242 في إدلب، 48 في الرقة، 260 في حلب، 270 في درعا، 37 في دير الزور، 160 في ريف دمشق، 47 في القنيطرة، مع معدل وسطي عام بلغ 114 فرداً لكل كم2 من الاراضي السورية.

معدلات تشير إلى أن المحافظات ذات الطابع الزراعي التي أظهرت الأحداث انخراطها الواسع بأعمال التمرد والعنف هي المحافظات الأكثر خلواً من السكان والمواطنين، وأن النمو السكاني المرتفع لم يكن السبب بامتصاص شواغر العمل كما لم يكن بالإمكان أن يشكل عبئاً تنافسياً على فرص العمل الجديدة (إن وجدت) في هذه المحافظات، على العكس من ذلك فقد كانت هذه المجتمعات المصدر الأساسي لقوة العمل في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية الأكثر صعوبة كالبناء والنقل والخدمات، وهنا بيت القصيد ذلك أن غياب فرص العمل في أرضها أنتج الفقر والبؤس الذي دفع بكثير من شبابها لترك التعليم والهجرة إلى أسواق العمل في المدن الكبرى والمدن المجاورة ليعملوا في شروط تزيد من بؤسهم وفقرهم.

الفقر وهجرة الشباب من الدراسة إلى العمل

وفق إحصاء عام 2009 حول هجرة الشباب نحو العمل يتضح أن من هجروا الدراسة هم التلاميذ والطلبة الذين قاربت أعمارهم سن السادسة عشرة، سن يؤهل صاحبه الموازنة بين مصلحته في التعليم ومصلته في العمل، كما يسمح له ترك المنزل والالتحاق بعمل قد لا يكون في أرضه. لقد وصل معدل هذه الفئة إلى نحو 35% ممن أنهى أو لم ينه الحلقة الثانية، أما أسباب هجرة مقاعد الدراسة فعكست بمجملها وجود خلل في العملية التربوية جاء البعد الاقتصادي ليعزز نتائجها، فنسبة 26.2% منهم تركوا المدرسة ولم يتموا الحلقة الثانية بسبب ما أسموه التعب من الدراسة! و 38.3% منهم لاعتقادهم بعدم قدرتهم على المتابعة والنجاح في التعليم أو أن لا جدوى من التعليم و 11.6% لعوامل دراسية أخرى و 7% لعوامل خاصة لم يعلن عنها وفقط 4% تركوا لرغبة حقيقية بالعمل. هذا الشك وعدم الثقة بجدوى الدراسة تم تأكيده مجدداً من نسبة عالية من المشتغلين الذين تركوا الدراسة بعد حصولهم على أول عمل حيث صرح نحو 80% بعدم استفادتهم من «التعليم» في عملهم.

لقد أظهرت البيانات أن فكرة ترك الدراسة المبكر كان يحضر لها في عملية بحث مسبق عن فرصة للعمل توفرت لهم خلال عملهم في العطل المدرسية والأسبوعية أو بمساعدة من أقربائهم وذويهم، بالمجمل فإن 28.5% منهم لم يتموا الحلقة الثانية و 13.3% أنهوا التعليم الأساسي و 13% من بحكمهم ممن لم يتموا التعليم الثانوي.

أما من وجدوا عملاً خلال فترة قصيرة فبلغ معدلهم 32%، حيث عملوا في مختلف مجالات الأنشطة الاقتصادية وخاصة القاسية منها، وحتى لا تكون هذه المؤشرات خادعة فلا بد من التنويه إلى أن نحو 26% منهم (60% شابات، 18% شباب) عملوا في قطاع الدولة، وغالباً ما عملوا كعمال موسميين أو بدوام جزئي، و30% عملوا لدى أسرهم ونادراً ما عملوا لحسابهم الشخصي وإن عملوا فعملوا كباعة وفي التجارة الصغيرة أو في الحرف والمهن المختلفة بنسب تراوحت بين 12% فقط في الزراعة، 20% في الصناعة، 20% في البناء، 22% في الخدمات والحرف الخفيفة....وبأجور زهيدة وعدد كبير من ساعات العمل غالباً عقد وفي عمل مؤقت أو موسمي وبلا ضمانات صحية أو اجتماعية.

خلل جغرافي في توزيع قوة العمل

لمقارنة مدى الاهتمام الحكومي في تحقيق العدالة الإجتماعية وتوفير التكافؤ في فرص عمل للناشئة من مختلف المستويات يمكننا الإسترشاد بتوزيع نسب التشغيل الحكومي لعام 2010، حيث جاءت المعدلات في حلب 15.3%، إدلب والرقة 20.9%، ريف دمشق 25.7%، دمشق وحماة والحسكة 26.5%، دير الزور 28.5%، درعا 31.3%، حمص 34.5%، السويداء 35.4%، اللاذقية 43.5%، طرطوس 49%، القنيطرة 52.7%، تباين يعبر عن اختلاف في سياسة امتصاص البطالة من قوة العمل الناشئة ذات التاهيل العلمي المتدني.

أما نصيب الفئات غير مكتملة التعليم من أمي، ملم بالقراءة والكتابة ومن أنهى الحلقة الأولى أو الثانية من التعليم الأساسي فقد جاء معدل التشغيل الحكومي كما يلي: حلب 5.1%، إدلب 6.5%، الرقة 8.3%، دمشق 9.45%، حماة 9.8%، دير الزور 10.2%، الحسكة 10.7%، السويداء 11.3%، درعا 11.6%، ريف دمشق 13.1%، حمص 13.4%، طرطوس 14%، اللاذقية 16.6%، القنيطرة 20.8%.

أما نصيب النساء من هذا التوزيع فنجد أعلى معدل له في اللاذقية 24.7%، طرطوس 22.65% والسويداء 22.3% وأخفض نسبة في حلب، الحسكة، الرقة القنيطرة حيث تتراوح بين 2% إلى 5% فقط. هذا الخلل يعيد توازنه القطاع الخاص المنظم وغير المنظم ولكن ضمن شروطه المدقعة.

هذا خلاصة ما أثمرت به السياسات الجائرة التي أفلست البلاد من طاقاتها وخيراتها، ودفعت بشرائح واسعة من أبنائها نحو الفوضى والعنف، وعلى هذه الحقائق الطبقية يجب إعادة رسم السياسات الإقتصادية والإجتماعية وفق منظور طبقي ووطني صحيح.