الحوار «الاقتصادي السوقي الاجتماعي»

الحوار «الاقتصادي السوقي الاجتماعي»

عقد حوالي 300 مواطن سوري.. من حكوميين وأكاديميين ونقابيين وفعاليات اقتصادية وممثلي غرف تجارية وصناعية وممثلي محافظات، حواراً اقتصادياً استمر لمدة ثلاثة أيام وخلص إلى بيان ختامي تطرق بالخط العريض إلى المفاصل الاقتصادية الرئيسية في الاقتصاد السوري فجاء متضمناً بنوداً عامة حول قطاعي الزراعة والصناعة، وبنوداً عامة حول مكافحة البطالة وتأمين فرص العمل وبنداً يؤكد على ضرورة مكافحة الفساد، وبنداً آخر يؤكد على «حماية الفقراء والمستضعفين»..

كان من الأحرى ألا يتم هذا الحوارالاقتصادي العام..وأن يختصر بما قاله رئيس مجلس الوزراء في افتتاح أعماله حيث أكد أنه لا عودة عن ثوابت وتوجهات عملية الإصلاح الاقتصادي السابق والمطلوب في هذه المرحلة مراجعة وتقييم وتصويب فقط. فعملية الإصلاح الاقتصادي لا تبدأ من الصفر حيث نملك رصيداً من الإنجازات المتحققة خلال سنوات «الخطة الخمسية العاشرة» ولاسيما أن الحكومة عملت باتجاه التحول التدريجي نحو اقتصاد السوق الاجتماعي في إطار مبدأ التشاركية بين القطاعين العام والخاص.

كان من الأحرى ألا يتم هذا الحوار الاقتصادي طالما أن الإصلاح الاقتصادي ونهجه السابق «عال العال»، ولا غبار عليه..سوى بعض التصويبات والتقييمات..فافتتح وختم بحدود وتوجههات واضحة المعالم، أعلنت بشعار واضح هو التمسك باقتصاد السوق كنهج اقتصادي، مع إيجاد بديل من شبكات الحماية الاجتماعية تتناسب مع حاجات المواطنين..

نعم.. كان من الأحرى ألا يتم هذا الحوار الاقتصادي، (أو أن يجري كما جرى حيث لا فرق).. إذا كان نهج اقتصاد السوق الاجتماعي من المؤكدات ولارجعة عنه، وإذا كانت الخطة الخمسية العاشرة و»إنجازاتها»هي نقطة انطلاق،

وإذا كانت البداية بالتغني بالخطة المذكورة، أي التغني بنهج الزيادة المتسارعة في معدلات الفقر والبطالة والتفاوت الاجتماعي، واعتبار أن النتائج السابقة من الممكن تداركها، «بشبكات الحماية الاجتماعية» !!

لابد أن الحوار الاقتصادي بفعالياته ومداخلاته تضمن نقاشات جدية، وهو ما انعكس ببنود تفصيلية في قطاع الزراعة والصناعة، وحماية القطاع العام وإلى آخره.. إلا أن هذا لا يجعل من الحوار الاقتصادي حواراً على مستوى أزمة، أو حتى على مستوى الواقع الاقتصادي والمعيشي السوري ماقبل آذار عام 2011.

فحتى الخطة الخمسية العاشرة تضمنت بنوداً حول الزراعة وحماية الصناعة والقطاع العام، وتجنب الآثار الاجتماعية لاقتصاد السوق الاجتماعي، وإعادة توزيع الدعم إلى مستحقيه، ومكافحة الفساد وغيرها وغيرها من الشعارات الاقتصادية والاجتماعية العريضة، وما أنتجت إلا زيادة قياسية في مستويات الفقر والبطالة والتفاوت الاجتماعي والفساد والريع..فما الذي يجعل من الحوار الاقتصادي السابق حواراً وطنياً على مستوى الأزمة السورية ، طالما أنه يتبنى شعارات عامة تم تبنيها سابقاً، وطالما أنه لا يعيد النظر بالنهج المتبع ولا يرضى أن يعطي حتى نقداً موضوعياً لسياسات الحكومة الاقتصادية السابقة بل يؤكد على الاستمرار على نهجها.. وكيف يتم اعتبار أن الأخطاء التي تتطلب التصويب ليست نتاجاً موضوعياً لهذا النهج، وبالتالي لا يمكن تداركها مع استمرار هذا النهج؟!.. أي ما الذي يجعل شبكات الحماية الاجتماعية – على سبيل المثال-  سابقاً غير قادرة على حماية المواطنين من آثار الانفتاح والتحرر الاقتصادي، ويجعلها قادرة اليوم؟ من يحمي اليوم شبكات الحماية الاجتماعية؟ لا يملك الحوار الاقتصادي ولا المتحاورون إجابات شافية، ولنكن موضوعيين لايملكون القدرة على استنتاج الحقائق التي تخالف ميزان القوى الاقتصادي في سورية والقائم على سيادة قوى المال والفساد والريع وبالتالي سيادة السياسات والنهج الذي يعكس مصالحها، ومن هنا كان من الأحرى ألا يعقد الحوار الاقتصادي طالما أن السياسات المحابية لقوى المال والريع مستمرة باستمرار قوتهم وسطوتهم، وطالما أن أصحاب المصلحة بالتغييرات الاقتصادية الجذرية والوطنية غير قادرين على فرض مصالحهم ومطالبهم في حوار اقتصادي يبدأ بالخطة الخمسية العاشرة وينتهي بالتأكيد على نهجها.

عقلية الحوار الاقتصادي السابق هي جزء من العقلية العامة في التعاطي مع الأزمة السورية الحالية، والتي هي عقلية التآمر واللاأزمة أي عدم الاعتراف الجدي والواضح بوجودها، وعدم  الاعتبارلضرورات ومسؤوليات حلها الوطنية العميقة، وهو نتيجة طبيعية لغياب الفهم العميق لجوهر الأزمة السورية ومحددها الرئيسي، وهو الاحتقان الشعبي بمسبباته الاقتصادية الاجتماعية والسياسية. فمن لا يدرك حجم تراكم الغضب الشعبي والاحتقان لايملك التعاطي الجدي والمسؤول معه، ومن لا يرى بالبطالة إلا مشكلة اقتصادية، لا يملك إلا حلولا شكلية وسطحية (من شاكلة بنود البيان الختامي للحوار الاقتصادي: بضرورة مكافحة البطالة وايجاد فرص العمل)، ومن لا يرى بالفساد الذي هو نهب ثروات الشعب السوري ومدخل رئيسي للعمالة والاختراق، إلا خللاً في إدارة موارد الدولة لا يملك إلا أن يبند في البيان الختامي مكافحة الفساد ومحاسبة المقصرين وإحداث هيئة..

طاولة الحوار «الاقتصادي السوقي الاجتماعي»، وغيرها من طاولات الحوار المتعددة التي فتحت منذ بداية الأزمة السورية، كحوار المحافظات إلى حوار الشباب وغيرها من طاولات الحوار المنفصلة والفضفاضة والمعزولة عن بعضها البعض كلها لم تلق اهتماما شعبياً واسعاً، نظراً لتغييب أطراف الحوار الرئيسية وهي الجموع المنتفضة والمحتقنة هنا وهناك، والتي لم تعد حوارات «اختصاصية» تعنيها، لأن الإدراك الشعبي العام بلغ ما لم يبلغه كبار المتحاورين على الطاولات المذكورة، حيث يدرك الجميع أن لا مجال إلا لحوار يتعامل مع الأزمة بموضوعيتها أي بأخذ كافة جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وكل ما أخل بكرامة المواطن السوري، ولا مكان إلا لحوار واسع ومركزي يمهد لعلاقة جديدة بين الدولة والمجتمع قائمة على أخذ وزن القوى الشعبية ومطالبها الحقيقية كمقدمة لكافة بنود التغيير، والابتعاد عن الانتقائية في الإصلاحات، والتي لابد أن يطفو عليها مصالح قوى الفساد والمال والريع طالما أن مصالح نقيضها الشعبي ووزنه الاجتماعي مغيب.