في لعبة «الحرب على الفساد»..من سيضحك أخيراً؟

في لعبة «الحرب على الفساد»..من سيضحك أخيراً؟

بدأت قوى الفساد الكبير في الدولة والمجتمع مؤخراً بمشاركة الجميع بالحرب على الجميع، هذه المرة تحت يافطة شديدة العمومية هي يافطة «الحرب على الفساد»، كلٌ من زاوية فهمه الذي تحدده مصالحه. والسبب واضح هو أن الامتناع عن مجاراة أي موضة رائجة لن يكون في مصلحة أي طرف يقوم بذلك، 

حتى لو كانت هذه الموضة هي ممارسة «نقد ذاتي» منافق، نقد ذاتي ضروري للحفاظ على الفساد مع بعض الماكياجات الجديدة، نقد ذاتي هو أشبه بمراجعة تقوم بها قوى الفساد الكبير لأدائها وإخفاقاتها بغية عدم الوقوع في المطب ذاته مرة أخرى..

أصبحت قوى الفساد الكبير مستعدة اليوم للتضحية بشقيقها «الفساد الصغير»، فبعد أن أضحت الحرب على الفساد قدراً لا راد له، وبعد أن إتضح دوره في إيصال البلاد إلى حافة الهاوية، فلا مانع من تقديم قرابين الفساد الصغير على مذبح الصراع حول السلطة والثروة والكرامة، هذا ما يمليه «المنطق» على قوى الفساد الكبير. لكن الأدهى هو أن آلية الإنكار الفرويدي لاتزال تفعل فعلها الشديد بهذا الخصوص، فبعض القوى التي ترى بقاءها ماسكة بزمام البلاد والعباد أمراً بديهياً، تبدو مقتنعة بالفعل بأن الأزمة في سورية هي أزمة سوء إدارة، وسوء فهم بين الدولة والمواطن أدى إلى ضلال بعض «ضعاف النفوس» والتحاقهم بصفوف المؤامرة. وأنتجت تلك القوى ثنائيات مناسبة لهذا الطرح كـ«موظف- مواطن» أو «بيرقراطية- تطوير وتحديث» أو «مؤسسات- شعب»...ألخ. العيب في هذه الثنائيات أنها ترصد النتائج وليس الأسباب في العلاقة بين المجتمع والدولة، وأنها تعبر عن الثانوي وليس الجوهري في تلك العلاقة، الجوهري الذي أصبحت محاولات طمسه ضرباً من الغباءالمستفحل. الجوهري المتمثل بأن قوى الفساد الكبير تحديداً أصبحت عائقاً جدياً أمام استمرار العلاقة بين المجتمع وجهاز الدولة الأمر الذي يتطلب إستئصال هذا النوع من الفساد من جذوره..

يكمن ما بين فتح المعركة على الفساد الصغير وما بين فتحها على الفساد الكبير فارق طبقي من حيث الجوهر، فدون الوقوع في مطب الدفاع عن الفساد الصغير، يمكن القول إن المعركة ضد بيرقراطية صغار الموظفين وفساد الشرائح الدنيا في سلم المراتب في جهاز الدولة، كانت قد فُتحت منذ قرابة عقد من الزمن، وطرحت آنذاك تحت عناوين الإصلاح والشفافية ومعالجة الخلل ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب ..ألخ. ولكن من الضروري أيضاً رؤية ذلك التوجه بعلاقته  تشريع أبواب البلاد للإستثمارات الخارجية، وعملية جذب المستثمرين الأجانب التي كانت تصطدم ببيروقراط الفساد الصغير، ورؤية هذا التوجه بترابطه مع توجه تصفية دور الدولة في حياة البلاد السياسية والاقتصادية، وسياسات الخصخصة وتصفية القطاع العام وتسريح العمالة «الفائضة»، والتراجع عن الدعم الحكومي وبعض امتيازات الطبقة العاملة والبرجوازية الصغيرة في سورية. واليوم يروق للبعض تسمية ذلك التوجه «إصلاحاً» تم قطع طريق تطوره بواسطة «الأزمة/ المؤامرة»، والحقيقة أن هذا التوجه بالذات هو الذي أوصل إلى الازمة، وهو الذي مكن المؤامرة النفاذ من خلال الأزمة، في حين كان المطلوب الأمس واليوم وغداً الإطاحة بالفساد الكبير وبالتالي إسقاط  رأس المنظومة وعقلها المدبر،الأمر الذي يعني سقوط الفساد الصغير تلقائياً، لأن هذا الأخير نشأ في ظل شقيقه الكبير أي في ظل سوء توزيع الثروة وانخفاض معدلات الأجور والفقر والبطالة..ألخ.

فتحت الأزمة في سورية المعركة ضد الفساد قسراً بعد أن تأخر فتحها في السابق سنوات طويلة، ولم تستطع هذه المرة قوى الفساد الكبير النأي عنها، وعقدت عزمها على المشاركة فيها بغية التعتيم على المشهد من الداخل ورمي المسؤولية على عاتق صغار الموظفين، وعلى سوء الأخلاق والتربية والإدارة والكفاءة والمهنية..ألخ، وبهذا تصل قوى الفساد الكبير إلى أكثر أدوارها انحطاطا، وتطرح أكثر المواقف سطحية وابتذالاً، وحالما يتضح أن القرابين الصغيرة لن تنهي المعركة سيلجأ كل طرف إلى خندقه الحقيقي، فالمعارك لا تنتهي قبل توضح الخنادق..