الحركة الشعبية.. البنية والوظيفة

الحركة الشعبية.. البنية والوظيفة

يبدو أنه كان من الضروري، ومنذ بداية الحراك، الاتفاق على أحد أهم الثوابت التي ترسمها حراكات الشارع في كل العالم وليس عندنا فقط.. وهي وظيفة هذا الحراك، إلا أن النشوة التي أخذتنا على حين غرة، جمدت عقولنا عند شعار الثورتين التونسية والمصرية الخالد في القاموس الحديث للمرحلة الجديدة من صعود قطب الشعوب: (الشعب يريد اسقاط النظام)..

وظيفة الحركة الشعبية

أضاعت النخب السياسية المتثاقلة الكثير من الدماء والوقت بالخلط بين الوظيفة والشعار المرفوع، وكانت حراكات الشارع اللاحقة في سورية وليبيا نموذجين معقدين لعملية التغيير المبنية على هذا الخلط، ورغم التباين بينهما إلا أنهما اشتركا بالعفوية والحداثة النسبية والتعرض للقمع الشديد وتدخلات الخارج السافرة. أدى هذا الضغط إلى تشويه متعمد يسمح بإدخال شعار (إسقاط النظام) كوظيفة لإسقاط الدولة، مبتعداً بذلك عن الوظيفة المطلوبة من الحركة الشعبية..

من الحرية إلى الإسقاط، وإلى حماية التظاهر ومن ثم حماية المدنيين... كانت تتعقد مهمة الحركة الشعبية وتزداد التكاليف المطلوبة لإنجاز المهمة التاريخية. جاءت الحركة الشعبية بالمهمة الأساسية التالية: بناء الفضاء السياسي الجديد، وهذه المهمة من حيث الهيكل ليست أكثر من (دستور يحدد علاقة الدولة بالمجتمع، قانون أحزاب للسماح بتنظيم القوى الاجتماعية، قانون انتخابات كأداة لإمساك هذه القوى بالسلطة، ولاحقاً منظومة اقتصادية- اجتماعية مستقرة نسبياً تملأ هذه الهياكل بالقوى الاجتماعية كحامل حقيقي لعملية التغيير، والتقدم بها.. أما جهاز الدولة، ودون انفصاله عن مصالح تلك القوى الاجتماعية، فيكون دوره رعاية هذه العملية وتأمين المناخ لها من خلال ردع التدخل الخارجي، وضرب قوى الفساد، أي أنه جهاز المناعة رغم كل ما يعبر عنه حالياً). هذا هو الشكل النموذجي والمجرد لبناء الفضاء السياسي، أما الشكل الواقعي فهو صراع معقد ومفتوح الزمن، لا تتغير مهامه طال الزمن أم قصر، ومهما كانت المعيقات  صعبة، فمثلا (لا يمكن النظر بهذا التجريد إلى جهاز الدولة، فهو جزء من المشكلة وجزء من الحل، بإسقاطه ينفرط المجتمع إلى مكوناته البدائية، وبقاؤه بهذا الشكل يعني إجهاض عملية التغيير. إن فرز جهاز الدولة هو العملية المتوافقة مع وظيفته المحددة سابقاً)، فالأدوات يجب أن تراعي دور ووظيفة كل المكونات السابقة، وباكتمالها ينجز الشعار والوظيفة بمراحلها الأولى، وبين الإسقاط والبناء فرق شاسع لفظياً، أما واقعياً فالفكرة لا تتعدى إلا صياغة دقيقة للمهمات والمراحل والعقبات والأدوات.

بنية الحركة الشعبية ومنطق التقسيم الإعلامي

إن التوصيف الإعلامي للصراع الحالي عن أنه صراع (نظام- معارضة) توصيف مضلل، فعلاوة على أنه غير واقعي، فإنه أدى إلى تهميش الحركة الشعبية وتغييبها، أو تشميلها ضمناً في مكاتب المعارضة، والتي تنتمي فعلياً للفضاء السياسي القديم، وهي جزء من النظام السابق –لا تنفصل عنه  إلا بمقدار ما تمثله من قوى اجتماعية لا يمثلها النظام الحالي - ولو أقصاها دوماً (إن أغلب قوى مجلس اسطنبول تمثل مصالح رأسمالية الغرب المتهالكة، كالإخوان والليبراليين، عدا عن الكثير من الفاسدين الذين خرجوا للتو من تحت عباءة النظام ليدخلوا عباءة المعارضة كبسام جعارة - ونبراس الفاضل عراب الدردري في الحكومة السابقة – والعملاء، حيث لم يستطع هذا المجلس في بداية تأسيسه حسم موقفه من قضية الجولان المحتل). إن التوصيف المتعارف عليه تاريخياً، هو حكومة ذات برنامج - وقوى سياسية تعارض هذا البرنامج، وكلاهما يدوران في فلك نظام قائم مستقر نسبياً ويعبر في بنيانه عن تناسبات بين القوى الاجتماعية، أي بين ناهبين ومنهوبين). فلا فرق اجتماعي جدي بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري في أميركا، اللهم إلا بأسماء الشركات الراعية!! وما الفرق بين برنامج حزب الشعب المحافظ الذي يصر على خطط التقشف، وحزب الاشتراكيين الراحل بعد أن أوصل البلاد إلى مرحلة التقشف في إسبانيا تحت ضغط الشارع الذي هتف بإسقاط النظام «الديمقراطي»؟!!..

إن التوصيف الدقيق والعلمي للصراع الحالي هو أن نظاماً جديداً يتشكل، يتجلى بصراع الحركة الشعبية مع كامل الفضاء السياسي القديم (معارضة تقليدية ونظام).

إن هذا الصراع يعبر عن تناسب جديد في القوى الاجتماعية، والتقسيم بين معارضة ونظام يجعل الحركة الشعبية رهينة لأحد الطرفين أو مقسمة بينهما، دون الانتباه إلى أن الحركة الشعبية لا تعني فقط تلك الجماهير الغاضبة، بل تعني كل تلك الجماهير التي استيقظت لتعبر عن مصالحها الاجتماعية، سواء بقبولها الآني بالنظام نتيجة واقع الاصطفاف الحالي والمؤقت أو تلك الرافضة قطعياً له. إن الحركة الشعبية بظهورها، تقطع الصلة مع كل المنظومة السابقة عموماً، كما ستبتعد عن أي  طرف لا يرى بها  نتيجة لتغير موضوعي وانزياح في البنى الاجتماعية السابقة، وبالتالي لا يكفي تمثيلها إعلاميا بل مصلحياً.

يتهرب البعض من تمثيل هذه المصلحة  تحت عنوان فضفاض، كمقولة مرحلية التغيير أو إسقاط هرم النظام كمعيق أول، أو إسقاط الأعمدة الرئيسية كالأمن والجيش، وتبقى كل تلك النقاشات حول هذه الآليات لا أكثر من وضع للعصي في دواليب الحركة الشعبية، أو تعقيد للعملية وضرب لمناعة الدولة مما يؤدي إلى ضرب حراكها الجماهيري على كل الصعد.