عن «الدولة الأمنية» والمعارضة السورية

عن «الدولة الأمنية» والمعارضة السورية

تعالت مؤخراً الأصوات المنتقدة لخطاب وأداء ما يقدم على أنها «المعارضة» السورية، انتقادات يصيب بعضها أداء هذه المعارضة من إقصاء وتخوين لكل من يخالفها، حيث أثبتت أنها لا تختلف كثيراً عن النظام الذي تعارضه..! بالمقابل، يبقى غائباً النقد الذي يطال بنية هذه المعارضة، إذ أن مدى استحقاق هذه القوى للقب المعارضة هو فعلاً موضع تساؤل مشروع. تتناولهذه المادة موضوعة «إسقاط الدولة الأمنية» في خطاب المعارضة، الشعار الذي لا يفارق ألسنة جزء كبير من المعارضين، وبخطاب ممجوج يسوده التسطيح والتعمية، وأكثر من ذلك سنحاول إثبات أن بنية قوى كثيرة من «المعارضة» السورية تجعلنا نجزم بأنها ستعيد إنتاج هذه الدولة «الأمنية» إذا ما تحقق لها يوماً أن تعتلي عرش السلطة في سورية.

بداية، وبعيداً عن الوقوع في مطب المصطلحات السريعة والجاهزة التي نُقصف بها بشكل يومي، لا بد من التأكيد أنه لا توجد دولة على مساحة هذه المعمورة ليست أمنية الطابع!. ويأتي في مقدمة الدول الأمنية «حصون الديمقراطية» في أوروبا والولايات المتحدة. إلا أن «دوزاج» الطابع الأمني يتفاوت، وهو باختلافه بين دولة وأخرى، وبين فترة وأخرى داخل الدولة الواحدةيخضع لمحددات وعوامل موضوعية. حيث يلاحظ أن الطابع الأمني للدولة في دول العالم «الديمقراطي» ما بعد الحرب العالمية الثانية، يتناسب عكساً مع مستوى سيطرتها ونهبها العالمي، فكلما نهبت أكثر كلما حصلت على فائض أكبر يمكنها من تلطيف التناقضات الاجتماعية والطبقية في مجتمعاتها، الأمر الذي يخفض الحاجة للآلة الأمنية، وكلما تعثر النهب قلّ الفائضوتفعلت التناقضات الداخلية داخل هذه المجتمعات مما يستدعي الآلة الأمنية لتوسع من فعلها مرة أخرى، وهو ما يبدو جلياً في فترة الأزمات الاقتصادية الكبرى كالتي نعيشها حالياً. عليه، نشهد تصاعد الطابع البوليسي داخل دولة مثل الولايات المتحدة مع تراجع مستوى هيمنتها العالمي وانخفاض منسوب نهبها، وذلك تحت حجة مكافحة الارهاب وما يقتضيه من استصدارقوانين تسمح بمراقبة أدق التفاصيل في حياة مواطنيها.

من ناحية أخرى، لا بد من التمييز بين الطابع الأمني للدولة داخلياً والذي يخص مجتمعها، وبين الطابع الأمني للدولة خارجياً والذي يشمل نطاقه مجال المصالح الحيوية لهذه الدولة أو تلك، إذ أن أجهزة مخابرات الدول الكبرى تتخذ من مساحة الكرة الارضية ملعباً لها ومرمى لأهدافها الاستعمارية بشكل دائم ويومي. إن وظيفة ما تقدم ذكره ليس تبرير «الطابع الأمني» للدولةالسورية على مبدأ إضفاء الشرعية بسبب تواجده في كل مكان، وإنما هو محاولة لفهم آليات وأسباب حضور الطابع الأمني من أجل تأسيس رؤية علمية للخروج من الطابع الأمني المقيت بعيداً عن الخطاب السياسي اليومي السطحي لبعض أطراف المعارضة التي تفتقر لخلفية معرفية جدية.

يغيب عن ذهن هذه «المعارضة» -هذا إذا أخذنا حسن النوايا وهو أمر لا ينصح به في عالم السياسة-  أن الأجهزة الأمنية ليست سقطاَ من السماء، أي أن  طابع البنية السياسية ليس قضية معلقة بالهواء، وليس قضية مستقلة عن الصراع الاجتماعي في المجتمع المعني وإنما هو نتيجة له من ناحية، وإطار لتفاعلاته من ناحية أخرى. إن طابع هذه البنية يحدده طابع الفئاتالاقتصادية- الاجتماعية المسيطرة والسائدة. وعليه، لا يمكن أن تكون البنية السياسية سوى أمنية الطابع في بلد تسوده قوى الفساد وتجار الاستيراد الطفيليين، الأمر الذي يؤدي لارتفاع مستوى الاحتقان الاجتماعي ونسب الفقر والبطالة، مما يدفع بهذه الفئات الاجتماعية التي لم تجد لنفسها مكانا لائقا في المجتمع، لسلوك كل طرق التمرد عليه، والحفاظ على السلطة منموقع الفئات السائدة يستدعي ضبطاً أمنياً لهذا التمرد، إضافة إلى أن التغول الأمني يتحول بذاته إلى أداة في نهب الدولة والمجتمع بالتلازم مع كونه أداة الدفاع عن الطبقة السائدة. إذ تتناسب قوة وحضور الأجهزة الأمنية في حياة المجتمع طرداً مع مستوى التناقضات الاجتماعية وحدتها، فكلما زادت هذه التناقضات كلما دعت الحاجة إلى ضبط ايقاعها وتصعيد دور أجهزةالأمن كإحدى أدوات الضبط، إلى جانب أدوات التوافق والهيمنة من إعلام وسواها.

بالإضافة إلى ذلك، يلاحظ تاريخياً أن العامل الخارجي، بما يمثله من صراع مع قوى خارجية إقليمية وعالمية، يلعب دوراً مهماً في تنامي دور الأجهزة الأمنية، ومن ناحية أخرى يصبح الخطر الخارجي شماعة يعلق عليها هذا التدخل والتسلط الأمني بحياة المواطنين اليومية. وهو أمر لا يمكن إهماله عند تناول الدولة الأمنية في بلادنا التي يقبع خطر الصهيونية على تخومها.

إذاً، هناك سياسات اقتصادية-اجتماعية حاضنة لتنامي الدور الأمني لجهاز الدولة في الحياة اليومية للمواطنين، هذه السياسات بالملموس هي السياسات الليبرالية التي تقود إلى إملاق وتهميش فئات واسعة من المجتمع. تجارب التاريخ البشري في القرن المنصرم والحالي، تؤكد بما لا يدع مكانا للشك بأن الليبرالية الاقتصادية والديكتاتوريات العسكرية-الأمنية يشكلانمتلازمة موضوعية في بلدان العالم الثالث، حيث تغدو الدولة الأمنية هي الطريق الاجباري لكي تحافظ قوى الفساد واحتكارات الاستيراد على سلطتها في وجه جموع المفقرين والمعطلين عن العمل.

بالعودة إلى سورية، تكتفي أطياف كبيرة من «المعارضة» السورية بمطالبها وبدائلها المفترضة بالحديث عن نظام سياسي ديمقراطي تعددي مدني، يكفل مساواة جميع المواطنين أمام القانون دون ذكر السبيل لتحقيق ذلك. بالمقابل يلاحظ غياب برنامج اقتصادي- اجتماعي بديل لسياسات النظام. فالقضية الاقتصادية-الاجتماعية مغيبة تماماً عن خطاب المعارضة ووثائقها، وإذاما تم التعرض لها فبشكل سريع وبعبارات عامة ومعومة. بالمقابل لا يخفى على متابعي «المعارضة» السورية التقليدية وتقلباتها التاريخية، بأنها ليبرالية الطابع اقتصادياً، وهو ما ينطبق على جزء كبير من القوى والشخصيات المشاركة في «إعلان دمشق» و«هيئة التنسيق الوطني» وما يسمى بـ«المجلس الوطني» مثل الإخوان المسلمين وشخصيات وقوى «ماركسية»سابقاً، ليبرالية لاحقاً..!

 

إن هذا التناقض بين الخطاب التعددي الديمقراطي لجزء كبير من قوى «المعارضة» السورية التقليدية وتوجهاتها الاقتصادية- الاجتماعية السوداء، ليس سوى تناقض شكلي، لا بل إن الحوامل الاجتماعية لبرامجها الليبرالية (والتي هي نفسها الحوامل الاجتماعية للنظام الحالي)، تجعلنا نجزم بأنها إذا ما وصلت للسلطة يوماً، فستعود لتنتج نموذج الدولة الأمنية الحالية نفسه،وإن اختلف الشكل، وستعود للتصارع مع الجماهير، الجماهير نفسها التي تحاول تلك القوى ركوب موجتها اليوم، وتعلي من صوتها على أرضية دمائها.

 ويبقى الطرح الاقتصادي- الاجتماعي هو ورقة عباد الشمس ومقياس ديمقراطية أي قوة سياسية، فلا فكاك بين القضية الاقتصادية-الاجتماعية والقضية الديمقراطية. إن الديمقراطية المنشودة بما تمثله من  الاطار الذي يحكم العلاقة بين القوى السياسية وجهاز الدولة والمجتمع، يجب أن تكون في خدمة مجتمع العدالة الاجتماعية، وإن الشروط التي تنتج هذه العدالة هيالضامن الوحيد  لحفظ كرامة المواطن من بطش أجهزة الأمن.