لينين ينتصر لـ «الطوفان» ومن «المسافة صفر»

لينين ينتصر لـ «الطوفان» ومن «المسافة صفر»

لو كان لينين على قيد الحياة اليوم، ماذا كان ليقول عن معركة «طوفان الأقصى»؟ سنحاول الإجابة هنا اعتماداً على تقييم لينين لظاهرة الحرب عموماً بوصفها استمراراً للسياسية بوسائل أخرى (وهو ما تبنّاه وطوَّره عن كلاوسفيتس)، إضافة إلى كتاب لينين المهمّ «الاشتراكية والحرب» والذي احتوى موقفاً لا لبسَ فيه في مناصرة حروب التحرير التي تقاتل فيها الشعوبُ المظلومة والمُستعمَرة ظالميها ومستعمريها.

في رسالة تحمل تاريخ السابع من كانون الثاني 1858، كتب إنجلس إلى ماركس: «أنا الآن أقرأ، من بين أشياء أخرى، عملَ كلاوسفيتس عن الحرب. طريقةٌ فريدةٌ في التفلسُف ولكن جيّدة جداً في الجوهر».
وفي عام 1915، وبينما كان عالقاً في بيرن في سويسرا، قرأ لينين عمل كارل فون كلاوسفيتس، حيث سرعان ما انجذب إلى «طريقته الخاصة بالتفلسف» لأنها كانت مشبعة بالديالكتيك، ومثل إنجلس، لاحظ لينين هذه الخصوصية، حتى أنّه كتب عن أفكار كلاوسفيتس بأنها «كانت متولَّدة من هيغل». ولم يكن لينين بعيداً عن الكتابات العسكرية كما يشهد بذلك المقرّبون منه. وأثناء قراءته كلاوسفيتس كان لينين يدوّن مقتطفات اقتبسها منه مع إضافة تعليقاته عليها، وبقيت بشكل مخطوط «دفتراً عن كلاوسفيتس» حتى نُشِرَ لأول مرة في صحيفة البرافدا عام 1923. وفي عام 1931، ظهر نَصّ دفتر لينين هذا في طبعة روسية-ألمانية أشرف على تحريرها الباحث السوفييتي بوبنوف، كجزء من مجلّد خاص بملاحظات لينين الفلسفية.
كتب كلاوسفيتس دراسته الشهيرة في الجزء الأول من القرن التاسع عشر، فلماذا قرأ لينين «كلاوسفيتس العجوز» في المفصل التاريخي عام 1915؟ هذا لسببين، بحسب بوبنوف، انشغال لينين بتحديد موقف البلاشفة من الحرب العالمية الأولى، وعلاقتهم بها وعلى الأخص علاقتهم بالأحزاب الاشتراكية الأخرى. والسبب الثاني أبحاث لينين عن الإمبريالية.

الحرب كاستمرار للسياسة

اشتُهِرَ من تعاليم كلاوسفيتس بأنّ الحرب هي استمرارٌ للسياسة بوسائلَ أخرى. وتابع لينين بأنّ الحروب الإمبريالية هي امتداداتٌ عنيفة للسياسة الإمبريالية. إنّ طابع الحرب، بحسب لينين، يعتمد على النظام الداخلي للبلد الذي يشنّها. فالحربُ تعكس السياسات الداخلية والخارجية للبُلدان التي تمارسها. فالحرب إذاً مُلخَّصٌ مكثَّف لمجموعة معيَّنة من السياسات. فإذا جرى القتال من أجل الإمبريالية فالحرب إمبريالية، وإذا جرى من أجل التحرر من الاستعمار، ومن أجل الديمقراطية، تكونُ حرب تحرَّرٍ وطنيّ وديمقراطية.
بحسب كلاوسفيتس، الحرب تصادُمٌ كبير للمصالح يتميّز عن نزاعات اجتماعية أخرى بأنّه سفّاكٌ للدماء. وفي الحروب الإمبريالية يصف لينين هذه المصالح بأنها التنافسُ بين الاحتكارات المالية على أراضي المُستَعمَرات. إنها تستعمل أساليب عُنفيّة وغير عُنفيّة وتمثّل السياسة العسكرية خلاصةَ المصالح المالية للمجتمع الرأسمالي الذي يقوم بتقاسم العالَم بالعنف عندما تفشل المزاحمة الاقتصادية السلمية. فالسياسة الإمبريالية هي التي تُؤطِّر الحروب الإمبريالية. لقد لاحظ كلاوسفيتس بأنّ الحروب لها قواعدها الخاصة من ناحية التكنيك، ولكن منطقها السياسي لا يستمّد منها بالذات كحروب، بل تفرضه سياسة الحقبة الخاصة التي في سياقها تدور رحى الحرب. وبإعادة صياغة لكلاوسفيتس بروح ماركسية-لينينية، يمكننا القول، إنّ دراسة السياسة الإمبريالية هي شرطٌ مسبق لفهم تلك المناسبات التي يكون ضرورياً فيها استخدام «الرئة الحديدية» للإمبريالية بدلاً من وسائلها الأخرى «الناعمة» أو «السلمية». إنّ السياسة الإمبريالية في حربيّتها وسِلميَّتها جزءٌ من البنيان الفوقي للرأسمالية المتعفِّنة (الإمبريالية)، التي حدّد لينين سمتها بالتمركز الشديد للإنتاج ولرأس المال لدى الطُغَم المالية، التي تصدّر المال أكثر من البضائع. وتؤدّي الكارتيلات إلى زيادة الفروق بمعدّلات النّمو بين البلدان، وهذا التطوّر المتفاوِت، المتأصّل في طبيعة الاستغلال الذي تمارسه الدول المتقدّمة جدّاً على المستعمَرات المُتخلَّفة، لا يمكن حلّه سوى بعنف النضال الذي يخوضُه الرّازحون تحت الاستعمار لنيل حرّيّتهم. ولذلك أصبحت النزعة العسكرية الأداة السائدة لقمع المستَعمرات بواسطة رأس المال الاستثماري المرتبط بالصناعة الإمبريالية المزدهرة في قطّاع الأسلحة.

نظرية كلاوسفيتس-لينين العسكرية

استعار لينين وعدّل نموذج كلاوسفيتس للحرب، بحيث يجعله ملائماً للإطار الأوسع لنظريّته عن الإمبريالية. يرى كلاوسفيتس أنّ النظرية العسكرية تبحث في مكوّنات الحرب وتَفصِلها إلى فئات (مقولات) عبر تفسير خصائصها وتأثيراتها. الحرب ليست شيئاً قائماً بذاته بل استمرارٌ للسياسة، وهذه الأخيرة بدورها يفسّرها كلاوسفيتس بأنها توليفةٌ من الأفكار والعواطف والشروط الاقتصادية-الاجتماعية، وهي العوامل الثلاثة الأساسية ضمن المجتمع التي تنظّمها سلطة الدولة. ويحدث العنف، بحسب كلاوسفيتس، نتيجةً لاختلال التوازن في واحد أو أكثر من مكونات السياسة هذه، مما يتطلّب استعادة التوازن بالقوّة. ولذلك يعوِّلُ نموذج كلاوسفيتس على تقييم هذا التوازن وتنظيمه عبر العناصر المختلفة للقوى في النطاقَين المحلّي والدّولي.
استعار لينين نموذج التوازن الكلاوسفيتسيّ ولكنّه أدخل عليه تنقيحاً ماركسياً. فالإمبريالية باتت بنية السياسة التي تتشكّل مكوّناتها من قوى المركز الاستعماري ومُستَعمراتِه، في توازنٍ هشّ. وتأتي الحرب نتيجةً لعدم التوازن الذي تتخطى فيه إحدى الإمبراطوريات حدود إمبراطورية أخرى، أو عندما تثور إحدى المستعمَرات على مستعمرِها. فضلاً عن ذلك، فإنّ منظومة لينين حوّلت الماركسية نفسها عبر تفسير وسائل الإنتاج بإطار التجمّعات الاحتكارية (الكارتيلات) ووصف العملية الديالكتيكية للتناقض بين الإمبرياليّين والمُستَعمرات المُستَغلّة. وسعى منهج لينين إلى اكتشاف محتوى كلٍّ من التوازن واختلال التوازن (أو الحرب)، كما سعى إلى ذلك منهج كلاوسفيتس، ولكن المنهج اللينيني فعل ذلك بتحليل الطابع الطبقي ضمن الشرط التاريخي الاقتصادي لأوروبا والعالَم ما قبل الحرب العالمية الأولى.
ومن هذا التحليل تنبّأ لينين بالثورات في المستعمَرات كاستجابة للظلم الذي انطوى عليه إخضاع الشرق غير الصناعي أو شبه الصناعي إلى احتياجات الغرب الصناعية والمالية. رؤية لينين هذه لاقت قبولاً وتبنّياً واسعاً من أتباعه بوصفها بياناً صحيحاً عن الانتفاضات العظيمة للمُستَعمرات وتنبّؤاً بالشكل السائد للحرب الثورية المعاصرة، حروب الشعوب من أجل التحرر الوطني. وبذلك يمكن تفسير الثورة البلشفية بأنها كانت أوّل تحقيقٍ لنبوءة لينين هذه وبشيراً بحروب التحرر الوطني الثورية خلال قرنٍ من الزمان، قرنٌ من الحروب الإمبريالية التي رأى لينين بأنها القاسم المشترك لظروف الثورات المعاصرة. وينبغي هنا أن نتذكّر تعريف ستالين لـ«اللّينينيّة» بأنّها ماركسية عصر الإمبريالية والثورة البروليتارية.

الاشتراكية والحرب

في كرّاس «الاشتراكية والحرب» الذي كتبه صيف 1915 بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، قال لينين إنّ «موقفنا نحن، من الحرب يختلف مبدئياً عن موقف المسالِمين البرجوازيين (أنصار السلام ودعاته) والفوضويين. فنحن نمتاز عن الأوائل بأننا نعترف تماماً بالصلة الحتمية الرابطة بين الحروب والنضال الطبقي في داخل البلاد؛ وندرك أنه يستحيل القضاء على الحروب دون القضاء على الطبقات ودون بناء الاشتراكية».
وينبغي الانتباه إلى القاعدة اللينينية التالية في تقييم أيّة حرب، وهذا له أهميته الكبيرة ويمكن تطبيقه على تقييم حروب المقاومة الشعبية ضدّ الاحتلال، ومعاركها بما فيها عملية «طوفان الأقصى» التي شنتها المقاومة الفلسطينية من غزة في السابع من أكتوبر الماضي. يكتب لينين في الكرّاس نفسه: «نحن الماركسيين، نمتاز عن المسالمين والفوضويين بأننا نقرّ بضرورة دراسة كلّ حرب على حدة دراسة تاريخية (من وجهة نظر مادية ماركس الديالكيتيكية)». ويتابع «فقد عرف التاريخ جملة من الحروب كانت تقدمية، رغم كل الفظائع والأهوال والكوارث والعذابات التي تنطوي عليها حتماً كلّ حرب، أيّاً كانت، بمعنى أنها كانت مفيدة لتطور الإنسانية وساعدت في تحطيم أشدّ المؤسّسات ضرراً ورجعية (مثلاً الأوتوقراطية أو القنانة) وأشدّ الأنظمة المستبدّة إغراقاً في البربرية في أوروبا (النظام التركي والروسي). ولذا كان من المهم دراسة الخصائص التاريخية التي تنطوي عليها الحرب الراهنة بالذات».

حربٌ دفاعيّة بتكتيك هجوميّ

في موضع لاحق من الكرّاس نفسه يؤكّد لينين بهذا المعنى بالذات أنّ الاشتراكيين «كانوا يقرّون ولا يزالون بما يتّسم به (الدفاع عن الوطن) أو (الحرب الدفاعية) من طابع شرعي، تقدّمي، عادل... فإنّ هذه الحروب ستكون حروباً (عادلة)، (دفاعية)، أيّاً كان البادئ» - وهنا شدّد لينين على عبارة «أيّاً كان البادئ». ونلاحظ أنّ هذا بالضبط ينطبق على عمليّة «طوفان الأقصى» التي هي في جوهرها «دفاعية» شعبية ضد الهجوم العدواني المستمر من الاحتلال على مدى عقود (الاحتلال الصهيوني هو البادئ بالاعتداء تاريخياً)، ولا يغيّر في شرعيّتها ودفاعيّتها الجوهرية شيئاً أنْ يكون شكلها التكتيكي «هجوماً» من المقاومة على كيبوتسات العدوّ في غلاف غزة. وكما قال لينين«كلّ اشتراكي سيتمنّى انتصار الدول المضطهَدَة، التابعة، التي لا تتمتع بكامل حقوقها، على الدول الكبرى، المُضطَهِدة المُستعبِدة النهّابة».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1150