لينين: عقيدة تايلور والاستنزاف «العِلميّ» للكادحين
فلاديمير لينين فلاديمير لينين

لينين: عقيدة تايلور والاستنزاف «العِلميّ» للكادحين

تورِد «الموسوعة البريطانية» في آخر تحديث لها تحت مادّة «التايلورية– نظام الإدارة العِلميّة» (19 تموز 2023)، أنّ «تسيير العامل وفق روتين شبيه بالآلة يجعل منه أكثر إنتاجية». ما لا تذكره الموسوعة هو أنّ «الإدارة العلميّة» البرجوازية تزيدُ كذلك إنهاكَ العمّال واستغلالَهم بإجبارهم على تعظيم «القيمة الزائدة النسبية» على الأقلّ. فيما يلي نصّان عن التايلورية بقلم لينين نشرهما عامي 1913 و1914.

تعريب: د. أسامة دليقان

في العدد السادس من البرافدا (13 آذار 1913) نشر لينين القطعة الصغيرة التالية بتوقيع «م.م».
إنّ الرأسمالية تسبق الجميع. أعظم التطورات التكنولوجية وأسرع تقدّم منجَز، هي وقائع تجعل أوروبا القديمة تقلّد اليانكيّين (الأمريكيين الشماليين). ولكن ليست المؤسسات الديمقراطية هي ما استعارته البرجوازية الأوروبية من أمريكا، ولا الليبرالية السياسية، ولا حتى النظام السياسي الجمهوري، بل ما استعارته أوروبا منها هي أحدث طرائق استغلال العمّال.
الموضوع الأكثر رواجاً للنقاش في أوروبا اليوم، وكذلك في روسيا إلى حدّ ما، هو «نظام» المهندس الأمريكي فريدريك تايلور [1856–1915]. منذ فترة غير بعيدة، قام سيميونوف بتلاوة ورقة تتحدّث عن هذا النظام في قاعة الاجتماعات بمعهد هندسة السكك الحديدية في سانت بطرسبورغ. لقد نَعَتَ تايلور نفسُه نظامَه هذا بلقب «العلميّ»، ويجري الإقبال بحماسة على ترجمة كتابه وترويجه في أوروبا [يقصد لينين كتاب «مبادئ الإدارة العلمية» 1911].

ما هذا «النظام العلميّ»؟

[الغرض من نظام تايلور] هو أن يعتصر من العامل عملاً أكثر بثلاث مرّات مما سبق، خلال يوم العمل الواحد ذي الطول نفسه. حيث يتمّ تشغيل أقوى وأمهر العمّال، واستعمال ساعات خاصّة لتسجيل الزّمن– تقيس الثواني وأجزاء الثانية لكلّ عملية وحركة. ويتمّ تطوير أشدّ طرائق العمل اقتصاداً وكفاءةً، وتسجيل عمل أفضل العمّال على فيلم تصوير سينمائي، وما إلى ذلك.
النتيجة هي أنّ ساعات العمل تبقى تسعاً أو عَشراً كما في السابق، ولكن مع اعتصارٍ أكثر بثلاث مرات وبلا رحمة لعمل العامل وكلّ قوّته؛ حتى آخر قطرةٍ من القوى العصبية والبدنيّة لهذا العبد المأجور. وماذا إذا ماتَ في ريعان شبابه؟ لا بأس، هناك كثيرون غيره ينتظرون عند الباب!
في المجتمع الرأسمالي، يعني التقدُّم في العلم والتكنولوجيا التقدّمَ في فنّ استنزاف الكادحين. وهاكم مثالاً من كتاب تايلور، حيث يتحدّث عن عملية تحميل الحديد على عربات نقلٍ يدوية من مكانٍ إلى آخَر لمعالجته اللاحقة، فيقارن التغيّرات وفق الأرقام التالية بين النظامَين - القديم والجديد «العلمي» - على التوالي: قلّصَ النظام الجديد عدد عمّال التحميل من 500 إلى 140 مع زيادة الأطنان المحمّلة لكل عامل من 16 إلى 59 طنّاً وسطياً، ولكن لم يزد الأجر الوسطي للعامل (بالروبل) سوى من 2.30 إلى 3.75 فقط، مع أنّ إنفاق صاحب المصنع على كلّ طن من الحمولة (بالكوبيكات) انخفض من 14.4 إلى 6.4. وهكذا نجد أنّ الرأسمالي قلّصَ نفقاته إلى النصف أو أكثر، وزاد أرباحَه. حقّاً إنّ البرجوازية مبتهجة وممتنّة لتايلور أشدّ الامتنان ولا تعرف كيف ترفع إليه ما يكفي من آيات الشكر!
يحصل العمّال بادئ الأمر على زيادةٍ في الأجر ولكن مع تسريح المئات منهم، أما الباقون فعليهم العملُ بشدّة أربعة أضعاف، في مهنة شاقّة تكسر الظهر. وبعد اعتصار العامل من كلّ قواه، يتمّ طرده، ولا يتمّ توظيف سوى العمّال الشباب والأقوياء. إنه استنزاف الكادحين في تطابقٍ صارمٍ مع كلّ الإرشادات العِلمية.

ماكينة الاستعباد

تحت عنوان «النظام التايلوري– استعباد الإنسان من قِبَل الآلة» نشر لينين في «بوت برافدي» في 13 آذار 1914:
لا تستطيع الرأسمالية أن تهدأ ولو للحظة، حيث يتوجّب عليها البقاء في حركةٍ دائبة. فالمزاحمة، التي تكون على أشدّها أوقات الأزمة كالتي نشهدها حالياً، تستدعي اختراع عدد متزايد من الوسائل الجديدة لتخفيض تكاليف الإنتاج. ولكن هيمنة رأس المال تحوّل جميع هذه الوسائل إلى مزيد من استغلال العمّال. يمثّل نظام تايلور إحدى هذه الوسائل، ومؤخّراً استعمل أنصار هذا النظام التقنيّات التالية في أمريكا مصباحاً كهربائيّاً يُربَطُ بذراع العامل، وتُلتَقَطُ صورٌ فوتوغرافية لحركاته وتُدرَس... وجدوا بأنّ حركات معيّنة هي «زائدة عن الحاجة»، وأُصدِرَت الأوامر إلى العامل لكي يتجنّبها؛ ليعملَ بشدّة أكبر بلا تضييعٍ لأيّة ثانية على الراحة. ويتم تخطيط التّصميم العام لمباني المصانع الجديدة بطريقةٍ تمنع تضييع أيّة لحظة أثناء إيصال المواد للمصنع، ونقلها من سوق لآخر، وصولاً إلى شحن المنتوجات النهائية.

فنّ الاستغلال والسينما

يتمّ توظيف السينما بشكلٍ منهجيّ لدراسة أفضل العمليات التشغيلية وزيادة شدّتها، وبتعبير آخر: «تسريع» العمّال. مثلاً، تمّ تصوير العمليّات التي يؤدّيها عاملٌ ميكانيكيّ على فيلم سينمائي عبر يوم عمله الكامل. وبعد دراسة حركاته، زوّده خبراءُ الكَفاءة بمقعد جلوسٍ عالٍ بما يكفي لكي يجنّبَهُ تبذيرَ أيّ وقتٍ في الانحناء بجسده. وتمّ تزويدُه بصبيٍّ يعاونُه ويناولُه كلَّ جزءٍ من الآلة بالطريقة الأكثر كفاءة. وفي غضون أيام، صار العامل ينفّذ تجميع النوع المطلوب من الآلة خلال ربع الزمن الذي كان يستغرقه تجميعها من قبل! يا له من مكسبٍ ضخم في إنتاجيّة العمل! ولكنّ أجر العامل لم يُزَدْ أربعةَ أضعاف، بل النّصف فقط في أحسن الأحوال، ولفترة وجيزة. وحالما يعتاد العمّال على النظام الجديد يتمّ فوراً إرجاعُ أجورهم إلى مستواها السابق. يحصل الرأسماليّ على ربحٍ ضخم، أمّا العمّال فيكدحون بشدّة أقسى أربعة أضعاف عمّا قبل، ويُتلِفون أعصابَهم وعضلاتهم أسرعَ أربعَ مرّات ممّا قبل.
يتمّ أخذ كلّ عامل جديد إلى «سينما المصنع» حيث يُعرَضُ عليه كيف يجب أن يكون الأداء «النموذجي» لمهنته؛ ويُجبَر على «اللّحاق» بذلك الأداء. وبعد أسبوع، يُؤخَذ العاملُ نفسُه إلى السينما ثانيةً وتُعرَضُ عليه صورُ أدائه لعملِه بالذات ثمّ مقارنتها بـ«النموذج».
يتمّ إدخالُ كلّ هذه التحسينات الهائلة التي تؤدّي لإلحاق الأذى بالعمّال، لأنها تقود إلى قهرهم واستغلالهم بشكلٍ أكبر. وعلاوة على ذلك، يتمّ جعلُ هذا التوزيع العَقلاني والكفوء للعمل مقتصراً على المصانع. ولكن ينشأ هنا سؤالٌ طبيعي، ماذا عن توزيع العمل في المجتمع ككلّ؟ ويا لها من كمّية عملٍ مهولة تلك التي يجري تبديدها حالياً بسبب الطابَع غير المنظّم والفوضوي للإنتاج الرأسماليّ ككلّ! كم من الوقت يُهدَرُ على تمرير المواد الأوليّة إلى المصنع عبر أيادي مئات البائعين والوسطاء (السماسرة)، بينما تبقى احتياجاتُ السوق مجهولة!
ولا يقتصر الأمر على إهدار الوقت، بل يجري هدرُ المنتوجات الفعلية وإتلافها. وماذا عن هدر الوقت والعمل على إيصال السلع الجاهزة إلى المستهلكين عبر طائفة من الوسطاء الصغار، الذين بدورهم لا يستطيعون معرفة متطلبات زبائنهم، فلا يقومون فقط بجملةٍ من الحركات النّافلة، بل وبعملياتِ شراءٍ وجولات لا داعيَ لها، وهلمّ جرّاً.
إنّ رأس المال ينظِّم ويُرَشِّدُ (يُعَقلِن) العملَ ضمن المصنع بغرض زيادة استغلال العمّال وزيادة الربح. أمّا في الإنتاج الاجتماعي ككلّ، فيستمرُّ سلطانُ الفوضى ويتنامى، مؤدّياً إلى الأزمات عندما لا تستطيع الثروة المتراكمة إيجاد من يشتريها، ويتضوّرُ ملايين العمّال جوعاً لعدم قدرتهم العثورَ على وظيفة.
إنّ نظام تايلور– ودون معرفةٍ أو رغبةٍ ممّن أطلقوه– يُحضِّرُ الأمورَ للوقت الذي ستمسك فيه البروليتاريا بزمام كلّ الإنتاج الاجتماعي وتقومُ بتعيين لجانها العمّالية الخاصّة بها من أجل التوزيع الملائم لكلّ العمل الاجتماعي وعَقلَنَتِه. فالإنتاج واسعُ النطاق، والآلات الحديثة، والسّكك الحديدية، والهاتف– جميعُها تقدّم آلاف الفرص لاختصار ثلاثة أرباع زمن العمل لدى العمّال المنظَّمين وجعل حياتهم أفضل أربع مرّات ممّا هي عليه اليوم. ولجانُ العمّال هذه، وبعونٍ من نقابات العمّال، ستكون قادرةً على تطبيق مبادئ التوزيع العقلاني للعمل الاجتماعي عندما يتمّ تحريرُ هذا الأخير من عبوديّته لرأس المال.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1134