إساءة تطبيق «النَّمذَجة الرياضية» – مُتَحوِّر كورونا «البريطاني» B.1.1.7 مثالاً
نيكولاس لويس نيكولاس لويس

إساءة تطبيق «النَّمذَجة الرياضية» – مُتَحوِّر كورونا «البريطاني» B.1.1.7 مثالاً

في آخر يوم من العام الماضي 2020 نشر الباحث نيكولاس لويس (عالِم في علم الإحصاء الرياضي والاستدلال الإحصائي والنمذجة) ورقة مهمة تظهر بأنّه رغم وجود أدلة على أن سلالة B.1.1.7 (التي ظهرت في كينت) قد نمت بمعدّل أسرع higher growth rate من سلالات أخرى في إنكلترا على مدى شهرين حتى منتصف كانون الأول 2020، لكن ذلك لا يكفي لاستنتاج الخصائص البيولوجية للفيروس من البيانات الوبائية المحدودة. واكتفى الرأي السائد بالتركيز على فرضية أن هذا المتحور الفيروسي يملك خواص بيولوجية منحته عدوى أعلى higher infectivity)، في حين تم استبعاد غير مبرَّر أو نقاش غير كافٍ، لفرضيَّات أخرى وبائية واجتماعية حول الأسباب الكامنة وراء هذا النمو السريع. فضلاً عن ذلك أخطأت ورقة وزارة الصحة البريطانية PHE (غير المُحكّمة علمياً) بتعويض قيمة مبالغٍ بها لعمر الجيل الفيروسي generation time في المعادلة الرياضية لحساب «رقم التكاثر اللحظي» Rt مما تسبب بالمبالغة بتقدير نسبة سرعة انتشار المتحوِّر المذكور. وفيما يلي نقدّم تلخيصاً وشرحاً لأبرز ما ورد في ورقة عالِم الإحصاء النقدية هذه.

ترجمة وإعداد: د. أسامة دليقان

«أسرع نموّاً» لا يعني بالضرورة «أسرع عدوى»!

من المفيد في هذا الصدد النظر في متحوِّرَين آخرين من الفيروس كانت لهما أيضًا فترة نمو سريع بشكل استثنائي، بل وأصبح أحدهما، هو السلالة السائدة تماماً في معظم البلدان.
المتحور الأول، هو ذو الطفرة D614G في البروتين الشوكي، نشأ باكراً، وظهر في أوروبا في شباط 2020، ولا شك أن هذا المتحوِّر الذي يرمز له أيضاً G614 تمييزاً له عن السلالة التي تحوَّر منها D614 قد نمت أعداد المصابين به بشكل أسرع في معظم البلدان، متحوِّلاً من كونه مساهماً بأقلية من حالات العدوى إلى كونه البديل السائد خلال شهر تقريباً. فمنذ تموز 2020، أصبح مسؤولاً عن حوالي 100% من الإصابات الجديدة في معظم البلدان وجميع القارات.
وفي ضوء أن الطفرة D614G أصبحت وما زالت مسيطرة، فمن غير المفاجئ أن ورقة بحثية في آب 2020 ذكرت أن طفرة D614G تزيد من قابلية الانتقال transmissibility مستشهدة بعدة أدلة وحجج، ورغم أنّ معظمها قابلة للتطبيق إلى حد ما على الأدلة التي تشير إلى أنّ المتحوِّر البريطاني (كينت) B.1.1.7 قد يكون أكثر قابلية للعدوى والانتقال [كوربر وزملاؤه، وللمراجعة عنها انظر المادة ذات الصلة في قاسيون آنذاك] لكنّ ورقة بحثية أحدث نُشِرَت في مجلة الطبيعة Nature (تشرين الثاني 2020 كتبها van Dorp وزملاؤه) أوضحت أنّه حتى بعد أن أصبح المتحوِّر G614 سلالة جديدة مهيمنة، فإن الاستنتاجات حول القابلية النسبية لانتقالها transmissibility، المستمدة من الأدلة الوبائية ومن الأدلة البيولوجية غير المباشرة، قد تكون خاطئة.
المثال الثاني المعاكس، هو المتحوِّر الحامل للطفرة A222V (ويسمى أيضاً A20.EU1) والذي ظهر في إسبانيا في أوائل صيف 2020، وانتشر بسرعة إلى بلدان أوروبية أخرى، حيث نما عادةً بشكل أسرع من السلالات الأخرى غير الحاملة لهذه الطفرة. وفي بريطانيا (من منتصف تموز إلى منتصف أيلول) نمت نسبة حالات الإصابات الجديدة بالمتحوِّر A222V إلى الإصابات الجديدة بسلالات أخرى غيره من 2% لتصبح بنهاية الفترة المذكورة 67%. وكان متوسط معدل النمو اليومي اللوغاريتمي هو 0,061 وهذا يعني أفضلية تكاثرية أسبوعية weekly multiplicative advantage تبلغ 1,53 (يعني معدل زيادة أسبوعية 53%). أي: إنّ هذا الرقم للأفضلية التكاثرية مطابق تقريباً لنظيره (1,51) لدى المتحوِّر البريطاني B.1.1.7 وفق دراسة PHE باستخدام البيانات من منتصف تشرين الأول إلى منتصف كانون الأول.

«أوسع انتشاراً» لا يعني بالضرورة «أسرع انتشاراً»

في بريطانيا وصل متحوِّر A222V إلى 70% من جميع التسلسلات الجديدة بنهاية تشرين الأول 2020، لكنه انخفض بعدها، كما حدث أيضاً في بلجيكا وألمانيا وسويسرا. ومع ذلك فإنّ ورقة بحثية غير محكَّمة بعد [ما قبل الطباعة pre-print ويجدر التذكير هنا أنّه حتى الورقة التي اعتمدت عليها الحكومة البريطانية بشأن المتحوِّر الجديد غير محكَّمة أيضاً] نشرت في تشرين الثاني 2020 حول المتحوِّر A222V وصلت إلى النتيجة التالية: «لم نجد أي دليل على زيادة قابلية انتقال هذا المتحوِّر no evidence of increased transmissibility بل نوضح بدلاً من ذلك كيف أنّ زيادة حالات وقوع إصاباته في إسبانيا، ثم استئناف السفر عبر أوروبا، والافتقار إلى الفحص الفعال والاحتواء الفعال قد يفسر نجاح هذا المتحوِّر».

مبالغات وأخطاء مستشاري الحكومة بحساب «Rt»

لنفترض أن معدل النمو الأعلى حتى الآن للسلالة B.1.1.7 كان كله نتيجة لارتفاع قابلية الانتقال transmissibility، فما هو تأثير ذلك على «رقم التكاثر اللحظي» الحالي Rt؟ يتوقف ذلك على ثلاثة عوامل أساسية، أولاً: على ماهيّة Rt [والذي يدل على كم شخصاً يستطيع المصاب الواحد أن يُعدي وسطياً، وعندما يكون أكبر من 1 يعني الوباء في تزايد، وأقل من 1 يعني الوباء في انكماش وبطريقه للزوال والرقم في بريطانيا اليوم أقل من الواحد بالمناسبة]. وثانياً: «عُمر الجيل» الفيروسي generation time ويعرّف بأنّه الفترة الفاصلة بين بداية عدوى الفيروس infection لشخص أول، وانتقاله ليعدي شخصاً ثانياً خالطه (بغض النظر عن ظهور أو عدم ظهور أو وقت ظهور الأعراض على أي منهما لأنّ الفترة الخاصة بذلك هي مقولة وبائية أخرى تسمّى «الفاصلة التسلسلية» serial interval). وثالثاً: التوزُّعِ الاحتمالي لعمر الجيل الفيروسي probability distribution.
كلما طال عمر الجيل الفيروسي زادت Rt المتوافقة مع إنتاج معدل نمو growth rate معين. الورقة البحثية التي نشرتها وزارة صحة إنكلترا PHE في 21 كانون الأول 2020 تكلمت عن تقدير الأفضلية التكاثرية للفيروس بطريقتين: إما مقيسةً بمشعر «معدّل النمو الأسبوعي» للإصابات بالعدوى، أو مقيسةً برقم التكاثر اللحظي Rt.

المشكلة الرياضية والعلمية المهمة في ورقة وزارة الصحة المذكورة، هي في طريقة تحويل تقدير الأفضلية التكاثرية من المقياس الأول (والتي كانت نمو 1.51 بالأسبوع، أي نمو 51% أسبوعياً) إلى المقياس الثاني (أي إلى Rt). والذي يتم باستخدام المعادلة التالية: Rt يساوي معدل النمو الأسبوعي wgr مرفوعاً إلى أسّ (وهذا الأسّ بدوره ينتج عن تقسيم عمر الجيل الفيروسي gt على الرقم 7). في هذه المعادلة بالتالي تلعب القيمة التي يتم تقديرها لعمر الجيل الفيروسي gt أهمية حاسمة، فكلما ارتفع ترتفع قيمة Rt المحسوب من المعادلة، وبالتالي يتم اعتبار المتحوِّر المدروس «أسرع عدوى» أو «أسرع انتشاراً»، والعكس صحيح.
قام خبراء «النمذجة الرياضية» mathematical modelling في وزارة صحة إنكلترا في ورقتهم تلك باعتماد الرقم 6,5 كقيمة لعمر الجيل الفيروسي gt واعتبروه ثابتاً، ولكن دون أنْ يذكروا لماذا اعتبروه ثابتاً؟ ودون أن يذكروا أيّ مرجع يبرِّر من أين جاؤوا بهذا الرقم أصلاً! فحصلوا على حساب Rt بأنه تقريباً 1,47 وفق المعادلة.
ربما كانوا يتبعون بذلك فريق إمبريال كوليدج، الذين اعتمدوا (في ورقة أخرى، فلاكسمان وزملاؤه) رقم عمر جيل وسطي هو 6,5 أيام أيضاً، والذين زعموا بدورهم بأنّهم جاؤوا بالرقم من ورقة بحث صينية سابقة كتبها «باي» وزملاؤه Bi et al. (27 آذار 2020). لكن الحقيقة هي أنّ الرقم في الورقة الصينية الأصلية كان 3,6 وليس 6,3! ومن جهة ثانية ما تم حسابه في الورقة الصينية هو الفاصل التسلسلي (بين ظهور أعراض المصاب الأول والثاني) serial interval وليس زمن الجيل الفيروسي (بين عدوى الأول والثاني)! ومن جهة ثالثة، الورقة الصينية تضمنت بيانات حالات لم يعزل فيها الفرد المصاب عن الآخرين إلا بعد فترة طويلة من ظهور الأعراض، حيث وجدوا أنه إذا تم عزل المصاب بعد أقل من ثلاثة أيام من ظهور الأعراض (وهي فترة مشابهة لما كان يحدث عادةً في المملكة المتحدة وقت إعلان المتحوّر الجديد B.1.1.7)، فإن متوسط الفاصل التسلسلي كان 3,6 يوماً فقط!

حتى إذا كان «أسرع عدوى» فبأيّة نسبة؟

هذا يعني أنّ دراسة وزارة الصحة PHE لو عوّضت الرقم 3,6 في المعادلة بدل 6,3 لكانت قيمة Rt المحسوبة هي 1,24 بدلاً من 1,47، وبما أنّ 0,47 هي تقريباً ضعف 0,24 فهذا يعني بأنّ دراستهم «العلمية» بالغت بتقييم «سرعة انتشار العدوى» للمتحوِّر البريطاني B.1.1.7 بمقدار الضعف على الأقل!
فحتى لو قبلنا بأنّ المتحور B.1.1.7 البريطاني أسرع انتشاراً فإنّه لا دليل علمياً رصيناً على أنّه أسرع بنسبة 50% إلى 70% كما ادّعى مستشارو الحكومة الصحّيون وأرقامهم المضخّمة بنسبة 100%، بل الدليل الذي يمكن القبول به في معايير علمٍ رَصين وطبّ مُسنَد بالبيّنات حقّاً EBM فهو أنّه بأسوأ الأحوال أسرع انتشاراً بـنسبة 25% إلى 35%.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1006
آخر تعديل على الخميس, 25 شباط/فبراير 2021 20:58