القلق وخلايا الأمان!
مروى صعب مروى صعب

القلق وخلايا الأمان!

ينطلق مفهوم الشعور بالأمان في علم النفس السائد، من خلال علاقة الإفرازات الدماغية بالقلق. فبحسب علم النفس السائد، إذا تحكمنا بالإفرازات التي تؤدي إلى الشعور بالقلق، سنتحكم بالقلق بشكل عام، وبالتالي قد نصبح قادرين على العيش بأمان في أي ظرف.

في الشهر الفائت، أصدر بحث في مجلة الخلايا العصبية، عن اكتشاف خلايا الدماغ التي تنشط عند الشعور بالقلق، ما سمي «خلايا القلق». حيث قام عدة باحثين بوضع فئران في حالات تؤدي إلى القلق، وقد توصلوا إلى إيجاد ما سمي بخلايا القلق، التي تنشط عند حدوث القلق فقط. استخلص البحث: أنه إذا تمكنا من تثبيط عمل هذه الخلايا في الدماغ، قد نستطيع السيطرة على الشعور بالقلق التي تنتجه، وبالتالي قد نستطيع العيش دون قلق حتى في الحالات التي تشكل خطراً على حياتنا. البحث لا يزال في بدايته، كون التجربة كانت على الفئران وليس على الإنسان، وكونها تجربة أولى تحتاج إلى المزيد من التدقيق لمعرفة عمل هذه الخلايا أكثر.
يُعرّف القلق بشكل عام، على كونه الحالة النفسية التي تنتج عن الشعور بالخطر، أو بالخوف من أي عارض داخلي_ أي من تغير في الشعور، أو من مرض جسدي_ ، أو أي عارض خارجي ينتج عنه الشعور بالخوف والخطر. بينما تختلف التحاليل في أي من المنبهات، هي: خارجية كانت أو داخلية، ومصدر كل منها. فيعتبر علم النفس السائد، أن المنبهات الخارجية مرتبطة بالتربية المباشرة من قبل الوالدين، والحاجات الشخصية والأساسية للإنسان مثل: الجنس، بالإضافة إلى العوامل الجينية، أي الجينات التي تنتقل من الوالدين إلى الأطفال، والتي تسبب القلق من دون القدرة على السيطرة عليها من قبل هؤلاء الأطفال. في حين يعتبر علم النفس العلمي المادي التاريخي، أن المنبهات الخارجية تأتي من جميع العلاقات المباشرة، وغير المباشرة للفرد، وجميع ما يحيط به، ويشكل عنده مصدراً للخوف والشعور بالخطر. وهذه المنبهات الخارجية، هي التي تثبت أي من المنبهات الداخلية سيؤثر في الفرد، وسيشعره بالخوف، أو الخطر. كما الفرق بين الفهم الميكانيكي للشعور وتطوره والفهم الديناميكي له. وقد نجد طروحات في علم النفس تصب بين الاثنين، والتي تعتبر أن مصدر القلق، هو: الحالة الموجودة في إطار اجتماعي، في حين أن هذا الطرح عاجز عن ربط التخلص من القلق، بتغير الوضع الاجتماعي الذي أدى إليه.
هل يمكننا حقا أن نعيش من دون قلق؟
بغض النظر عن تعريف القلق، وعلاقته بالمنبهات الداخلية والخارجية للأفراد. الشعور بالقلق هو: أحد أسباب تطور إدراكنا وعلاقتنا بمحيطنا. في كونه يعكس ما يحدث حولنا وتشوبه الأخطاء، وهو في حالاته الطبيعية، أي عند الشعور بالقلق بسبب الحرب مثلاً، يكون انعكاساً لإدراك العقل، أن ما يحدث يشكل خطراً على العقل والجسد، وبالتالي ما ينتج عن الشعور بالقلق من تغييرات في الجسد، تكون مثل دفاع إدراكنا وجسدنا عن نفسه. إما في حالاته غير الطبيعية، أي إذا أصبح متلازماً مع الفرد، ويعيق تصرفاته وقدرته على معرفة ما يجري حوله، فهو نتيجة كثرة المبنهات وقوتها على الإدراك الذي أصبح يربط أي حدث، بالمسبب لهذا القلق. فتثبيط ما سمي بخلايا القلق، في البحث المذكور سابقاً، يمنع الإنسان الإدراك من استيعاب ما يحدث حوله، ويخدر الفرد، ليصبح أشبه بالآلة التي تتلقى وتعكس بحسب ما يتم برمجته فيها. كما يشبه طريقة عمل الأدوية المضادة للاكتآب مثلاً، التي لا تبحث في سبب الاكتآب، بل تقوم بتخدير المريض، بجعل الدماغ يفرز ناقلات عصبية تؤدي إلى الشعور بـ “الفرح”، مثل عمل المخدرات، ولكن بشكل «قانوني». فإذا ثبطنا عمل الخلايا العصبية، كأننا نقوم بتثبيط عمل الشعور وتطوره بعلاقته مع تطور الإدراك.
قد يكون ما يطمح إليه الإنسان هو: العيش بأمان من دون القلق المستمر، من جميع المنبهات الداخلية والخارجية. ولكن هذا لا يعني أنه إذا كانت حياتنا من دون الشعور، ستكون أفضل. وهذا لكون أن الشعور متلازم مع تطور علاقتنا بمحيطنا، ويعكس كيفية فهمنا لهذا المحيط، وكيفية تحديد علاقتنا به. المؤسف أن تعاطي الأبحاث مع الإنسان في شعوره وموقعه الاجتماعي، يتجه باتجاه كبح المشاعر والافعال التي جعلت من الإنسان ما هو عليه اليوم، كتلة متحركة لا يمكنها العيش خارج علاقتها بمحيطها. وأن هذا التوجه، لا يعالج الأزمة، بل يقيد حركة ويكبح إدراك وتطور البشر العقلي والنفسي، لكي يبقيهم في حدود حركة وإدراكٍ معين لا يسمح لهم بالتغيير. وأن هذا الكبح لن يؤثر فقط على الشعور، بل سيؤثر أيضاً على تركيبة الدماغ وتطوره وقدرته على العمل. فعلاقة الدماغ مع باقي أعضاء الجسد، والمبهات الخارجية، ستتعطل، وستؤدي إلى أمراض عقلية وعصبية كونها لا تتم بشكلها الطبيعي، بل من خلال تأثير دواء على عملها.
وهذا التوجه في الأبحاث، يدل إلى أن العلم السائد غير قادر على لعب دور في الحياة البشرية. ووظيفته تقوم على تثبيط العوامل الداخلية (النفسية والبيولوجية) والخارجية، التي قد تقلل الاضطرابات النفسية والاجتماعية في المجتمع. وبالمعنى السياسي، هو يبقي على التنظيم المولد للقلق خارج أي بحث وأي تغيير. فالقلق كما أي ألمٍ آخر هو نتاج التنظيم الرأسمالي المريض للمجتمع.