«العلم المحايد» يسقط...الذّكاء الاصطناعي نموذجاً
محمد المعوش محمد المعوش

«العلم المحايد» يسقط...الذّكاء الاصطناعي نموذجاً

نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» بتاريخ الأول من شهر أيلول الماضي مقالاً بعنوان «كيف يبتكر عمالقة التقنية أخلاقيات حقيقية للذكاء الاصطناعي»، وفيه أن باحثين من «كبرى خمس شركات عالمية» في مجال التقنية والحاسوب ومحركات البحث على الشبكة العالمية، هي: «أمازون»، «ألفابيت»- الشركة الأب لـ«غوغل»،  «فيسبوك»، «آي بي أم» و« مايكروسوفت»، قد اجتمعوا لنقاش انعكاسات الذكاء الاصطناعي على قضايا الوظائف والنقل والحرب، في محاولة من هذه الشركات لوضع معايير حول «أخلاقيات» إنتاج الذكاء الاصطناعي، تحت هدف عام، حسب بعض التصريحات، هو «إفادة البشر من الذكاء الاصطناعي، لا أذيتهم». خصوصاً بعد التقدم السريع في هذا المجال، كالسيارات ذاتية القيادة، وتلك القادرة على «التعلم»، وأنظمة فهم الأصوات وغيرها. 

هذا الاجتماع هو شكل مكثف لخطوات تقوم بها الجهات المحتكرة لهذه الصناعة، في دول المركز الرأسمالي، من أجل وضع قيود وسقوف محددة تحت شعار «الأخلاقيات» المتوافقة برأيهم مع مصلحة البشرية. فبالرغم من المنافسة بينها بشكل عام، تلاقت الشركات في مواجهة ما سمي «عدم القدرة على ضبط الذكاء الاصطناعي مستقبلاً... فالمخاطر والاعتبارات مختلفة كثيراً باختلاف الميادين»، حسب تقرير أصدرته مجموعة في جامعة «ستانفورد» ممولة من «إريك هورفيتز» الباحث في «مايكروسوفت» وأحد التنفيذين في النقاشات القائمة حول هذه الصناعة.   

هستيريا اقتصادية-سياسية بوجه علمي

هذا النقاش الدائر على المستويات العلمية والإدارية والتقنية في مجال الذكاء الاصطناعي مباشرة، يعكس بالعمق التناقض الحاد الذي تعيشه علاقات الإنتاج الرأسمالية، في قمعها الشديد لتطور القوى المنتجة، بعد أن كان هذا القانون الموضوعي للرأسمالية يتوارى سابقا، بشكل جزئي، خصوصاً في مجال العلوم التطبيقية التي يملك فيها الخط الأيديولوجي الرأسمالي هامش تغليف موقفه من توظيف العلوم لصالح الربحية والاستغلال والحرب.

القدرة على التمويه، وضيقها هنا، ناتج عن عدة أسباب منها، أولاً: بسبب شكل هذه العلوم غير المرتبط مباشرة للوعي العام بالنظام الاقتصادي والسياسي، ولكنه أكثر وضوحاً في مجال الذكاء الاصطناعي، وثانياً: وهو الأساس، بسبب المرحلة التاريخية التي وصل إليها النظام الإمبريالي، واستفحال التناقضات الاقتصادية والسياسية، ما أصبح يفرض وضع كوابح بشكل معلن وواع على تطور جوانب من العلوم، بالرغم من أن هذه الضوابط، الواعية أو الضمنية، لم تغب يوماً في حركة إنتاج العلوم في النظام الرأسمالي. والسبب الثالث المرتبط بشكل مباشر بالسبب السابق، هو: ما يطال حركة رأس المال، وهو التناقض ما بين الطبقة العاملة ورأس المال، في علاقتهما مع التكنولوجيا، وهو ما أشار إليه ماركس بوضوح حول استبدال الآلة للإنسان في سياق التطور التكنولوجي، فبدل أن تكون الآلة مساهمةً في تقدم المجتمع البشري، تصبح مصدرا للبؤس والخراب على الطبقات المقهورة والعاملة والمجتمع عامة. هذا الاستبدال الذي سيزيد من حجم القوى الاجتماعية المُعَطَلة عن العمل، وبالتالي من التناقض في آلية حركة رأسمال نفسها، كعملية استغلال فائض قيمة العمل، وبالتالي التناقض في دورة رأس المال بكاملها، وارتفاع التناقض الذي تعيشه الرأسمالية.

حقيقة أخرى تكمن في  السّطور: العدو هو ما يثير المخاوف!

في ورقة بحثية أخرى نشرت في دورية «الذكاء الاصطناعي» التابعة لمجلة «إلسيفيير» في عددها الـ175 الصادر في العام 2011، لمجموعة من الباحثين، ضمن سياق بحث لصالح معهد «ماساتشوستس» للتكنولوجيا(كامبردج) في الولايات المتحدة، تحت عنوان «أخلاقيات الروبوت: تخطيط قضايا العالم المُمَكنَن»، عبَّر الكُتَّاب عن مجموعة من المخاوف بشكل واضح، منها: ما ذكر أعلاه حول استبدال الآلة لوظائف الإنسان (ولم يقل طبعا وظائف الطبقة العاملة الخاضعة للاستغلال في هذه الوظائف أساساً)، إضافة للمخاطر الناتجة عن إفلات الآلة من سيطرة الإنسان(الكلام هنا عن الإنسان بالمطلق، حيث يغيب طبعاً الحديث عن النظام الاجتماعي الرأسمالي)، وبالتالي انقلابها عليه وتهديد حياة البشرية، إضافة إلى العلاقة ما بين الذكاء الاصطناعي ومنظومة التشريع والقوانين والحقوق المستحقة للآلة «الذكية» مستقبلاً، وآلية المحاسبة لارتكاباتها، والآثار البيئية الناجمة عن النفايات التكنولوجية، وارتفاع الاعتماد الاجتماعي على الآلة، من بين اسباب أخرى.

ولكن، هناك جانب سياسي ظهر بتستر في الورقة، يُظهِر ما هو ضمني في المخاوف المذكورة، فالإشارة إلى استخدام الآلة في غير صالح البشرية، وبما فيه تهديد للحياة والأمن والسلام، إضافة إلى سوء استخدام الآلة الذكية من قبل «أشخاص مجرمين أو ببساطة مؤذيين»، وازدياد مخاطر الخروقات الأمنية، يعكس الصراع السياسي عالمياً، بشكله العلمي والتكنولوجي، حيث أن احتكار التكنولوجيا واستخداماتها لم تعد محصورةً بالمركز الإمبريالي بل أصبح جزءاً من تغير موازين القوى عالمياً، وخصوصاً أن دولاً صاعدة مثل الصين وروسيا وإيران تتقدما بشكل كبير على المستوى العلمي في المجالات المختلفة، ومنها الذكاء الاصطناعي. 

 هذا الإعلان الخجول، والذي تسجله الورقة سابقاً ضد مجهول، يتكَشَّف لاحقاً بالإشارة إلى أن «ما يجعل الروبوت مفيداً-قوته، قدرته على الوصول والعمل في بيئات صعبة، وتوسعه، وما إلى ذلك-قد يتحول أيضا ضدّنا»، (من المقصود هنا بالضمير الجمعي؟ ربما هي الولايات المتحدة الأميركية)، ويُكمِل الكُتَّاب «إن أساسيات تقنيات الروبوت ليست عصية على الإتقان، مثل: الروبوتات العسكرية الهائلة والمخيفة، حيث أنه أكثر من 40 دولة طورت هذه القدرات، ومنها إيران.» إذا هي إيران-ونكمل مع الكتُّاب-ودولاً أخرى كروسيا والصين هي الخطر المحدق، ويجب أن يتم كبح توسع امتلاكها لهكذا تقنيات ذكية. 

الرأسمالية هي نفسها 

الانقلاب ضد البشرية! 

المخاوف المطروحة كلها، حول انقلاب الآلة ضد الإنسان، تتجاهل عن وعي قوي هنا، أن النظام الرأسمالي نفسه، هو من أغرق البشرية والطبيعة بالمآسي والمخاطر والمخاوف الحالية والمستقبلية جميعها، من ملايين المُعَطلين عن العمل، وتدمير الطبيعة، والحروب ضد أغلبية سكان الكرة الأرضية، والويلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البشرية جميعها.

هذا الوضوح السياسي والأيديولوجي في العلوم، يعكس عُمق الأزمة الرأسمالية، وانقلابها على نفسها وعلى مقولاتها، ووحده تجاوز الإمبريالية على طريق عالم أكثر عدلاً ومساواة وأخوة ونمواً مشتركاً (كما عبر قائد الثورة الكوبية فيديل كاسترو في لقاء معه أواخر الثمانينات حول رؤيته للعالم في المرحلة القادمة)، على طريق الاشتراكية، وهو ما سيحقق التقدم الشامل المادي والمعنوي للبشرية، بتلاؤمها مع الطبيعة، اعتماداً على العلوم «المتحيزة» تجاه قضية الإنسان.

في هذا السقوط لـ«العلم المحايد» ليس غريباً أن نسمع، فيما قد يكون تخطياً- متفوقاً- لمالتوس وبعض النظريات الكونية «الحديثة» عن استحالة الحياة على كوكب الأرض في الألف سنة القادمة، من سيطل علينا يوماً- لا يبدو ببعيد، بمقولة «محايدة» أخرى: فلتُقْدِم البشرية على الانتحار، فلا سبيل للخلاص إلا الجحيم! 

معلومات إضافية

العدد رقم:
787