هل من ثمن للتنوع الحيوي؟

هل من ثمن للتنوع الحيوي؟

منذ فقداننا للغوطة، بدأنا نشعر بالإسمنت يخنقنا ويحاصرنا، وبدأنا نعاني من الازدياد الواضح في معدلات التلوث المخيفة، في مدينة مثل دمشق فقدت رئتها... وكذلك كان الحال مع فقدان بردى كماء يروي وموئل يؤوي، ومع ذلك حتى الآن لم نقدر بالقيمة الاقتصادية - تلك التي يفهمها الجميع - الخسائر الحقيقية لهذا التدمير.

لا شك أن قيم الطبيعة تتنوع وفقاً للظروف البيئية المحلية، والسياق الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
فالقيَم المعنوية تنعكس في رغبة المجتمع، في دفع الأموال لحفظ نوع معيّن أو مناظر طبيعية بعينها، أو لحماية موارد مشتركة. ويجب أن تؤخذ في الحسبان إلى جانب القيم التي تعد مادية بدرجة أكبر، مثل: الغذاء أو الأخشاب وذلك لتقديم صورة اقتصادية كاملة، حيث يشمل التنوع الحيوي أصناف الأنواع وعددها، وتنوّع النُظم البيئية، وتُعد خصائص التنوع الحيوي -الكمّية والنوعية- مهمة عندما نضع في الحسبان الروابط بين الطبيعة والنشاط الاقتصادي ورفاهية الإنسان.

 

خدمات النظم البيئية

في المؤلفات الحديثة على الأغلب، توصف الصلات بين الطبيعة والاقتصاد، باستخدام مفهوم خدمات النُظم البيئية، أو تدفق القيَم إلى المجتمعات البشرية، نتيجةً لحالة وكمّية رأس المال الطبيعي. فماذا عن هذه الخدمات؟
 عرف تقييم النظم البيئية أربع فئات من خدمات النظم البيئية التي تساهم في رفاهية الإنسان، وكل منها معزز بالتنوع الحيوي، وهذه الخدمات هي الخدمات التموينية، مثال: الأغذية البرية، والمحاصيل والمياه العذبة، والأدوية المشتقة من النباتات، وأيضاً الخدمات التنظيمية، مثال: ترشيح الملوثات بوساطة الأراضي الرطبة والتنظيم المناخي، عبر التخزين الكربوني وتدوير المياه والتلقيح والحماية من الكوارث. كذلك هناك الخدمات الثقافية، مثال: الترفيه والقيم الروحية والجمالية والتعليم، إضافة إلى الخدمات المساندة، مثل: تكوين التربة والبناء الضوئي وتدوير العناصر الغذائية.
هنا تؤكد الدكتورة عروب المصري: أن مفاهيم خدمات النظم البيئية ورأس المال الطبيعي، تساعدنا في التعرّف على الكثير من المنافع التي توفرها الطبيعة. من وجهة نظر اقتصادية، لذلك فإنّ تدفق خدمات النظم البيئية، يمكن أن يرى على أنه «الأرباح» التي يتلقاها المجتمع من رأس المال الطبيعي. فالمحافظة على المخزون من رأس المال الطبيعي يتيح التموينَ المستدام للتدفق المستقبلي لخدمات النظم البيئية، وتالياً: يساعد على ضمان بقاء استفادة الإنسان.
وتتطلب إدامة هذا التدفق فهماً جيداً لطريقة عمل النُظم البيئية وتوفير الخدمات، وكيفية تأثرها على الأرجح بالضغوطات المختلفة. وتُعد الرؤى المتعمقة في العلوم الطبيعية، أساسيةً لفهم الصلات بين التنوع الحيوي، وإمدادات خدمات النظم البيئية، ويشمل ذلك مرونة النظام البيئي، أي قدرته على مواصلة تقديم الخدمات تحت الظروف المتغيرة، وعلى نحو خاص التغيّر المناخي.

 

تراجع النظم إلى عتبات حرجة

وهناك دليلٌ متنامٍ، على أن الكثير من النُظم البيئية قد تراجعت إلى مستوى العتبات الحرجة، أو نقاط التحول، والتي بعد ذلك قد تنخفض قدرتها على توفير الخدمات النافعة إلى حدٍ كبير. ومع ذلك فهنالك غموض كبير بشأن كمية الاستخدام أو الاضطراب، الذي يمكن للنُظم البيئية المختلفة أن تتحمله قبل أن يقع الضرر، الذي لا يمكن صدّه. ولذلك تستدعي الحاجة وجود الحيطة اللازمة من أجل المحافظة على نُظم بيئية صحية، وعلى التدفق المستمر لخدمات النظم البيئية على المدى الطويل.


خدمات النظم البيئية في سورية

تمت خسارة العديد من خدمات النظم البيئية في سورية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: نهر بردى، وبحيرة العتيبة، وبحيرة قطينة، ومساحات كبيرة من الغابات، منها في فترات سابقة، ومنها خلال الأزمة الحالية التي تمر فيها بلادنا، في مناطق الفرنلق وغيرها، وهي خسارات غير ممكنة التعويض فعلياً، ولم يتم تقدير هذه الخسائر اقتصادياً، إضافة إلى انقراض عدد كبير من الأنواع النباتية والحيوانية، التي لم تتسنَ الفرصة لدراسة عوائدها الممكنة ناهيك عن بالخسائر الواقعة، ومن الحيوانات النعام السوري ومن النباتات عدد من المخروطيات على وشك الانقراض، كاللزاب ذي القيمة الطبية الاستثنائية، وعدد كبير من النباتات التي من الممكن الاستفادة من تحسينها كنباتات زينة.
إضافة إلى التلوث بالمبيدات والخسائر الصحية –فواتير الأطباء التي يدفعها المزارعون نتيجة التسممات- كل هذا يضاف إلى الخسائر الاقتصادية من خلال تعطيل عمليات الإلقاح في النباتات بسبب قتل الحشرات المؤبرة، وفي طليعتها أنواع النحل ذات القيمة المزدوجة (تأبير ومنتجات النحل).
وقد بدأت بعض الدراسات في تقدير قيمة الخسائر الاقتصادية الناجمة عن التلوث، كالدراسات التي جرت عن معمل اسمنت طرطوس، التي أوضحت أنه خاسرٌ اقتصادياً عندما نحسب الفاتورة التي يدفعها المزارعون من الخسارات في المحاصيل، وفواتير الدواء والعلاج من الأمراض الناجمة عن التلوث، لكننا لم نبدأ بعد بتقدير القيمة التي تقدمها النظم البيئية والتنوع الحيوي قبل أن نخسرها.
ونحن بانتظار دراسات تقدر على سبيل المثال، المردود الاقتصادي الذي تدره بحيرة كالجبول قرب حلب، على السكان المحليين من أسماك وطيور ونباتات ومياه ري وسياحة وغيره، في حين ترمي بعض المعامل القريبة نفاياتها السامة فيها، ضاربة عرض الحائط بمصالح كل المستفيدين من مزارعين وصيادين حول هذه البحيرة.
ويضاف إلى ذلك إدخال بعض الأنواع الغريبة على تنوعنا الحيوي وما يسببه ذلك من خسارة على مستوى الأنواع المحلية، لا يمكن تعويضها، وقد يسبب خسارة النظام البيئي في بيئات بكاملها، كما حدث حين أدخلت زهرة النيل، التي سببت دمار النظام البيئي للمجاري المائية في منطقة الغاب، من خلال التجريف لاقتلاعها بعدما سببت إعاقة حركة المياه فيها، فالتكاليف الهائلة لهذا الإهمال لحرمة التنوع الحيوي، لم يتم تقديرها بعد.
إن التنوع الحيوي بكل أبعاده- نوعية وكمية وتنوع النظم الطبيعية والأنواع والجينات- يحتاج إلى الحفاظ عليه وحمايته، ليس فقط لأسباب اجتماعية، أو أخلاقية، أو دينية، وإنما كذلك من أجل المنافع الاقتصادية التي يوفرها لأجيال الحاضر والمستقبل.