«الواهب».. و«التاجر».. و«السوق الحمراء»

«الواهب».. و«التاجر».. و«السوق الحمراء»

تبدو قلة الكلام عن هذا الموضوع مثيرة للاهتمام، فعلى الرغم من «مزارع الدماء» في الهند، و«سوق البويضات الخصبة» في قبرص، والطفرة غير المسبوقة في تجارة «الكلى» البشرية بعد التسونامي الكبير في أندونيسيا، يبقى موضع «الاتجار بالقطع البشرية» أمراً عادياً ومشروعاً في الكثير من الأماكن، لكن، في كل سنة، تشكل هذه «التجارة» منظومة اقتصادية متكاملة تتواءم مع مستلزمات القطاع الصحي حول العالم بما يقارب مليارات الدولارات من القطع والسوائل البشرية، يبدو الأمر عادياً وضرورياً إذا حافظنا على نظرتنا التقليدية للأمر : «يعطي المعافى ما يستطيع الاستغناء عنه من جسمه للمريض» لكن الحقيقة مختلفة تماما :«يمص الغني دماء الفقير..»، بالحرف، وليس كتشبيه إنشائي..!

ثارت دراسة عملية حديثة هذا الموضوع وأعادته إلى الواجهة، حيث نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» نتائج دراسة قام بها القسم الطبي في جامعة هارفرد، تمت على مجموعة من فئران التجارب، حيث تم «تبديل» دماء مجموعة طاعنة في السن من تلك الفئران بدماء المجموعة الفتية، فكانت النتيجة مطابقة لما توقعته أفلام مصاصي الدماء التي نعرفها، أصبحت الفئران المعمرة نشيطة بشكل غير اعتيادي بعد أن تم تنشيط خلاياها العضلية والعصبية، كما لو أنها استعادت شبابها من جديد، «يبدو أن» إكسير الحياة «هو الدماء الشابة تلك!» يقول الباحث المشرف على المشروع مبتسماً، لكن هل يعلم هو كيف سيتم تطبيق هذه النتيجة على البشر؟ ومن أين سيحصل الراغبون في إطالة أعمارهم على الدماء النقية كل حين؟!
النفط الجديد
سبقتنا أفلام الخيال العملي في تصوير ذلك، سيتحكم بالأرض مجموعات متنفذة من تجار الدماء، وستصبح هذه السلعة «النفط الجديد» الذي ستتسابق عليه شركات توزيعه، سيصبح المرء عبداً لتلك المؤسسات تزوده بالدم الفتي كل حين، وتحرمه منه عند تخلفه عن الدفع ليذوي ويموت، لكن، يبقى هذا الخيال حبيس الشاشات حتى هذه اللحظة، على الرغم من الأصوات المنادية بضرورة إماطة اللثام عن شركات الظل في القطاع الصحي العالمي، والتي تعمل على التربح من تجارة تلك المواد الحيوية دون أي حدود واضحة لأفعالها، كما أننا جميعا اعتدنا على إطلاق اسم «متبرع» على مانح العضو السليم، دون أن ندري بأن التسمية الصحيحة هي : «بائع» لذاك العضو، هذه كانت خلاصة الكتاب الجديد المثير للجدل للكاتب «سكوت كارني» بعنوان «السوق الحمراء»، والذي كشف حقائق مروعة حول كواليس هذه المنظومة الربحية الجشعة، فكانت كشوفه زوبعة تتناقلها الصحف والمواقع اليوم بكثير من الاهتمام.
مخزون الدماء الاستراتيجي
فلنعد قليلاً إلى الوراء، إلى الأيام الأولى التي اكتشفت فيها التقنية المناسبة لنقل الدم من شخص لآخر، ففي تلك الأيام، برز توجهان رئيسيان للتعامل مع الأمر، اقترح الأول أن يتم شراء كميات كبيرة من الدماء وتخزينها، وذلك عن طريق بيع المعوزين والفقراء لدمائهم مقابل حفنة من الدولارات، وهذا ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية في البداية، لكن ذلك أثار مشكلة كبرى، وهي الأمراض المنقولة عبر تلك الدماء والتي قد «تسمم» مخزون الدماء الاستراتيجي، ففي النهاية، يتم شراء الدماء من مجموعة من اليائسين المشردين والمعرضين للكثير من الأمراض السارية، فكان الحل باعتماد نظام «تبرعي» يقدم فيه «المتبرع» طواعية كمية من دمه كل حين، هذا المتبرع ليس بحاجة ماسة للمال، ولن يعمل على الاحتيال على النظام وإلقاء دمه الفاسد في المخزون من أجل نصيبه من المال، وهذا قد اعتمدته المملكة المتحدة منذ البداية.
وهنا عقدة الاحتيال الكبرى، حيث اعتدنا على إطلاق اسم «واهب» أو «متبرع» لهذا الشخص، أي أن ما يقدمه هبة يشكر عليها، ولا ندفع له مقابلها أي شيء، فتبدو العملية بالمجمل «ملائكية» الطابع وعلى درجة كبيرة من الإنسانية، لكن الحقيقة مختلفة للغاية، حيث تدخل الشركات الصحية كوسيط بين «المتبرع» و«المتلقي» وتعمل على إزاحة تلك الكلف المادية إلى جهة المتلقي، فتبقى موجودة على فاتورة المستشفى، أي أن المال يجمع هناك، وبصمت، كما أن فقدان الصلة بين المتبرع والمتلقي يعني انعدام أي رقابة لما تستطيع تلك الشركات فعله، فتبرعك بدمك لمركز الصليب الأحمر في بلدتك لا يمنع تلك المؤسسة أو وسطاءها من بيع دمك للطرف الذي يدفع أكثر، ربما لمشافي الحرب الميدانية، أو للبحوث الطبية العسكرية، أو لمؤسسات الغوث الإنسانية، لكن بالسعر المناسب، فتظن نفسك بأنك «واهب»، لكنك في الحقيقة ومن دون مؤاخذة: «بقرة حلوب» في مزرعة التاجر!
الأم البديلة
يتحدث الكثيرون عن «دماء اصطناعية» أو «أعضاء» بشرية يتم تصنيعها بوساطة تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد، وهي تبدو بالفعل بدائل واعدة تغني عن هذه السلسلة الشريرة السوداء تلك – أو الحمراء في هذه الحالة – لكنها ما زالت بحاجة إلى الكثير من الدراسة والتجربة، وفي المقابل، نرى الكثير من الأمثلة «المخيفة» عن حالات مشابهة من الاستغلال، فمبدأ «الأم البديلة» شائع للغاية في الولايات المتحدة الأمريكية بالذات، حيث تدفع الأم الغنية للشابة الفقيرة بعض المال لتحتضن جنيناً في أحشائها بعد زرعه اصطناعيا باستخدام سوائل الأبويين الثريين، هذا يعني ببساطة، طبقة غنية من الأمريكيين لا تعاني أبدا من مخاطر الولادة، وطبقة أخرى من الفقراء تعمل كحاضنة لأجنة الأثرياء تعاني كل يوم من ملايين الاخطار الصحية الجسدية والنفسية، تخيلوا هذا الأمر على نطاق واسع، على نطاق عالمي، إنه بالفعل مخيف للغاية!
بالعودة إلى الأفلام، لا ضير من متابعة الفيلم الأمريكي «Repo Man»، حيث ينقلنا إلى عالم مستقبلي ليس بالبعيد، يعمل فيه أحد الحراس الأمنيين في مجال تجارة الأعضاء، له مهمة وحيدة، تحصيل الأموال من المتخلفين عن الدفع، حيث يقتحم البيوت ويعتدي على صاحب القلب الجديد لأنه تمنع عن تسديد فاتورته، سالباً له قلبه دون شفقة، في ذلك العالم هناك شركة واحدة تسيطر على سوق «قطع الغيار البشرية» تدعى «الاتحاد»، في تصوير منطقي لسطوة شركات القطاع الصحي على سوقنا الحالية، ويعمل حراسها على تنظيم عملية التسديد تلك دون رحمة، يقول أحد أولئك الحراس بسخرية في أحد المشاهد : «ينتهي كل عمل أقوم به يومياً بالطريقة نفسها.. البعض يبكي. البعض يتوسل. حتى أن البعض يضحك. لكن الجميع يرقص في النهاية الرقصة المجنونة ذاتها. القليل من الارتعاش ثم يزفر أنفاسه صاعداً إلى السماوات...!»