فئران في قفص كبير

فئران في قفص كبير

«كان ذلك في بداية الصيف الماضي.. كنت قد انتهيت للتو من امتحاناتي السنوية .. وليس لي من عمل أنجزه سوى الجلوس أمام التلفاز والاستمتاع ببعض البرامج الخفيفة وتناول المزيد من الطعام غير الصحي.. لكن شيئا بقي يعكر صفو  جلساتي تلك على الدوام.. ظلت صورتها تحوم في خيالي ولم تبتعد ترانيم ضحكاتها يوما عن سمعي طوال الأسهر القليلة الماضية..

 لم أستطع بعد تجاوز ذلك الملاك الذي أخذ عقلي وقلبي وطار بهما بعيدا.. أطفأت التلفاز بنزق.. كان يجب أن أجد حلا لهذا.. فمن غير المعقول أن أظل معلقاً بهذه الذكريات بعد أن هجرتني صاحبتها.. ثم خطرت ببالي تلك الفكرة التي بسببها أقف أمامكم اليوم.. أنا عالم الفيزياء العصبية الشاب قد قررت وللأبد التخلص من هذه الذكريات.. كان علي أن أجدها أولا في دماغي  ثم العمل على حذفها دون رجعة.. لا تخافوا.. قمت أنا وصديقي هنا بتجربة هذا الأمر على فئران المختبر في البداية.. فأنا لا أهوى العبث بدماغي على الإطلاق.. وإن مرت علي لحظات وددت التخلص من رأسي كله كي تختفي ذكرياتها من مخيلتي..!! »

افتتح العالم «ستيف رامييرز» و زميله «إكسو ليو» محاضرتهما المشتركة بهذه الكلمات الصادقة من «ستيف»، لقد دفعته معاناته «العاطفية» إلى تنفيذ إحدى أغرب التجارب في تاريخ الفيزياء العصبية، ثم قاموا بالإعلان عن النتائج في مطلع العام الماضي مع مجموعة من فئران التجارب، حيث قام الاثنان بتسليط شعاع معدل من الليزر على أدمغة تلك الفئران بهدف تحفيز أو حذف ذكرى محددة في الدماغ، فكانت النتائج مذهلة بعد أن أظهرت صور مجهرية لخلايا المناطق الداخلية من الدماغ تغيراً ملحوظاً تمت قراءته ورؤية انعكاساته على الفئران التي بدت وكأنها توضع في الأقفاص للمرة الأولى، فهي تعيد اكتشاف ما حولها بعد أن قضى شعاع الليزر على كل معارفها السابقة حول هذا المكان بالذات..!

ربما يبدو هذا الاكتشاف واعدا بالنسبة لستيف على الأقل، فها هو قد حصل على التقدير الذي يستحق بالإضافة إلى الحل الأمثل لنسيان حبيبته، لكن الاكتشافات حول علوم الفيزياء العصبية لم تتوقف عن هذه الحد وسرعان ما استحوذت المؤسسات العسكرية على حقوق البحث في هذا المجال، كما يبدو بانها قد بدأت منذ وقت طويل، فلم تنتظر وصول معاناة «ستيف» إلى هذا الحد الإبداعي، كان الهدف «إعادة برمجة الدماغ»، وجميع الأساليب مشروعة، الليزر، أو العقاقير، أو حتى القيام بزرع رقائق الكترونية في الدماغ!

قامت وكالة الأبحاث والتطوير العسكرية الأمريكية DARPA  منذ بعض الوقت بالعمل على هذه التقنية، خلصت الأبحاث إلى إمكانية زرع شرائح الكترونية في الدماغ لتعديل ذكريات الشخص المستهدف، تزعم تلك الوكالة نيتها طرح هذا الاختراع للوكالات الطبية الحكومية للمساعدة في علاج أمراض الاكتئاب والقلق المزمن عن طريق التخلص من أسبابه الدماغية، لكن الحقيقة واضحة للجميع، إن الهدف الذي جعل هذا الاكتشاف «عسكرياً» في الأساس يكمن في نية الجيش الأمريكي خلق «وحوش» لا تعرف الرحمة، ولا تقيدها ذكريات قتل الأبرياء ثم الانتقال إلى المرحلة التالية التي تزرع فيها تلك الرقاقات في أدمغة الضحايا لتعيش في «يوتوبيا» مصطنعة بعيدة عن أي ذكرى لأي انتهاك أو استغلال..

لابد هنا من مراجعة اللقاء الصحفي الذي عقدته المديرة التنفيذية في شركة «جوجل» التقنية الامريكية «ريجينا دوجان» بعد انتقالها المباشر من وكالة الأبحاث والتطوير العسكرية الأمريكية إلى منصبها الحالي في هذه الشركة «المدنية»، حيث اهتم الكثير من متابعي الأخبار التقنية بالأسرار التي تمتلكها حول ذلك المجمع العسكري الغامض، كانت تتجاوب مع ذلك النوع من الاسئلة بابتسامة قائلة : «إنكم تعرفون بأنني لا استطيع الإجابة عن هذا السؤال!» لكنها في النهاية اعترفت بأن سبب انتقالها المفاجئ يعود إلى إطلاقها مشروعا مشتركاً بين الجانبين يتضمن تصنيع رقاقات الكرتونية على شكل حبة دواء تجعل ممن يتناولها مصدرا لإشارة بث الكرتونية تستطيع تحديد موقعه في أي مكان حول العالم، عندها قفز أحد المتبعين من الجمهور واردف بثقة: «لن اتناول أي حبة غريبة بعد الآن..» لكن «ريجينا» ردت على الفور ضاحكة : «وما أدراك بأنك لم تأخذها منذ زمن دون أن تدري».. اصفر وجه الشاب بعد أن التبس عليه المزاح بالجد.. وتابعت «ريجينا» ضحكتها..

قد يبدو التركيز على الدماغ حالة مستجدة في تاريخ الأبحاث العسكرية الأمريكية، لكن ذلك بعيد تماما عن الصحة، كانت ذاكرة الشعوب على الدوام هدف المارد الامبريالي المتوحش في جميع حروبه، ليتم ذلك بطرق مباشرة أو غير مباشرة، بالقوة أو بالحيلة، ولتندرج الحروب الإعلامية المباشرة والبرامج التلفازية التاريخية المشوهة وروابط مواقع التواصل الاجتماعي الخبيثة والتجمعات الثقافية المشبوهة وما يدور في فلكها من كتب ووثائق وأفلام وصولا لسرقة الآثار وتخريب المدائن في هذا الأمر، إنه حذف ممنهج لكل الذكريات التي نستند عليها في قراءة مستقبلنا ليبقى فقط في المخيلة صور الدماء والدمار، ومن دون أن يستخدم أحد حتى شعاع «ستيف» الليزري البسيط..