«سلفي» .. في كل مكان..

«سلفي» .. في كل مكان..

في البداية، نلفظها «سِلفي» ..بكسر السين، كي لا تلتبس علينا الأمور هذه الأيام، وهي التعريب الشائع حاليا لكلمة  Selfie  باللغة الانكليزية، قد تحتاج «مجمعات» اللغة العربية بعض الوقت للاحتكام إلى الكلمة العربية اللائقة بهذه الظاهرة التي اكتسحت منصات التواصل الاجتماعي حول العالم في أيام، لذا، قبل أن نغوص في متاهات الكلمات لا ضير من أن نتعرف قليلاً على هذا النوع الجديد من «النرجسية الالكترونية» الذي لطالما تميزت به الثورة الرقمية في عصرنا هذا، قد يعرّفها البعض ببساطة على أنها صورة شخصية تنشر لاحقاً على صفحات الشبكة العالمية، لكن البعض الآخر يرى فيها حقيقة صادمة : لم يكن إظهار التكبر الفارغ والسطحية الفكرية أكثر سهولة من الآن، بل وأكثر ترحيبا أيضا..

وفرت الثورة التقنية لمستهلكيها ومنذ أواخر القرن المنصرم، العديد من الوسائط التي سمحت لهم بالهرب إلى عوالم محببة يختارونها، مسلسلات طويلة وقصيرة ، أفلام خيالية ، بالإضافة لما سمي تلفزيون الواقع الذي جذب الانتباه إلينا لنصبح «نحن» موضوع الشاشة، تحول الجميع إلى أبطال وارتقت الكثير من السخافات إلى مستوى «مراجع فكرية»، ثم أتت مواقع التواصل الاجتماعي لتسمح للجميع ببث كل ما يفعله المرء طوال الوقت، بدأت القصة بموقع «ماي سبيس» الذي جمع هواة الغناء وأصحاب أحلام الشهرة الفارغة من الشباب، ثم أتى «يوتيوب» ليفتح المجال لقنوات وقنوات من البث الفيديوي عن أكثر التفاصيل سطحية في حياتنا، ثم «تويتر» لتبدأ «التغريدات» اليومية باستهلاك ما تبقى من دقائق يومنا، حتى ارتفعت التغريدات وتحولت إلى "ضجة" رقمية فارغة لا تحمل أي معنى، لا ينكر الكثير منا إدمانه اليومي على صفحات الفيسبوك الزرقاء، كما جعل تطبيق مشاركة الصور الشهير «انستوغرام» كلمة «Selfie» كلمة العام 2012 حسب احصائيات مجلة التايمز.. ما الذي يحدث هنا؟!

 الـ «سلفي»" هي نوع معاصر من الصورة الشخصية، تلتقط عادة بكاميرا رقمية صغيرة أو عن طريق جهاز الهاتف المحمول، وتكون عادة للوجه أو الجسم بالكامل، ليصبح النشاط الذي يقوم به الملتقط موضوع الصورة هذه، مهما كان هذا النشاط اعتياديا أو مألوفا، «سلفي» بعد الاستيقاظ، «سلفي» عند شراء أغراض البقالة، «سلفي» في العمل، وقس على ذلك، ظهر المصطلح في بدايات العام 2005 مع ازدياد شهرة مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع تبادل الصور الشخصية، ولتحمل السنوات التالية احصائيات مخيفة، ففي العام 2013 التقطت ثلثا النساء البالغات في أستراليا صور «سلفي» ، ونشرت شركة سامسونغ إحصائية مخيفة أثبتت أن ثلث الصور الملتقطة بكاميراتها هي صور «سلفي»، دخلت كلمة selfie  في العام ذاته قاموس أوكسفورد للغة الانكليزية ككلمة رسمية جديدة وأصبحت كلمة العام 2013 أيضاً حسب رأي القيمين على القاموس هذا، كما أن صورة الـ «سلفي» التي التقطت في حفل توزيع جوائز الاوسكار الأخير قد تم تناقلها على موقع تويتر أكثر من 1.8 مليون مرة في أقل من ساعة !!

على كل حال، يبدو من غير العادل وصف مواقع التواصل الاجتماعي بالمجمل على أنها «نرجسية»، إنها «نرجسية» بسبب مستخدميها بالطبع، لا تعدو كونها أداة بيدهم، لكن اللعبة تكمن بأن تلك المواقع تتغذى يوميا على الفراغ في نفوسنا، وهي تنشر بتوسع تلك العلل في شخصياتنا، حيث بينت العديد من التجارب على أن عدد «المنشورات»، والصور، والتغريدات الشخصية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بشخصية المستخدم ومدى «نرجسيته»، وبسبب حاجة ذلك النوع من الناس إلى عرض صور محببة وغير واقعية لنفسه على الدوام وذلك للحصول على حاجته من مؤشرات القبول الاجتماعي كما يحتاج المدمن إلى جرعته المخدرة، قد يبدو «صحيا» أن يسعى الإنسان إلى تحقيق حالة ملائمة من القبول في مجتمعه كنوع من «الانتماء»، لكن «النرجسية الرقمية» طرحت مشكلة أعمق من ذلك.

تكمن المشكلة هنا في إخضاع المستخدم اليومي إلى ضغوط هائلة لتحقيق أهداف بعيدة جداً عن متناولهم، من دون أن تزودهم حتى بالسبل الفكرية والاجتماعية التي قد تساعدهم على تحقيقها، إنها ترسم لهم عالماً تتحقق فيه الأحلام ببساطة ويسر، وسرعان ما سيصطدم الحالم بجدران الواقع ولن يجد مفرأً من «خفض» سقف أحلامه بدلآ من أن «يرفع» جهد عمله، وسيصبح هذا الإظهار العلني للنرجسية والغوص العميق في عالم الأوهام الخيار الوحيد لمعالجة هذا الحد المتدني من الثقة بالنفس، هذا الإظهار المستحب والمحتفى به في كل مكان كخيار أسهل وأفضل لتحقيق الأحلام.

تعمل وسائط التواصل الاجتماعي اليوم على دراسة وتحليل مظاهر هذه "النرجسية" وتبدي اهتماما كبيراً بالحالات التي تعرض أنواعاً جديداً من الإدمان، لكن نتائج تلك الدراسات ستصب في مصلحة زيادة ذلك الإدمان وتعزيز تلك النرجسية، والهدف واضح ، الإبقاء على جمهور كبير من المستهلكين يؤمن الأرباح اليومية الهائلة عن طريق تبادل التفاهات اليومية والصور «السلفية» والتغريدات والمنشورات في عالم يتحول فيه مستهلكو هذه التقنيات إلى البضاعة المستهلكة ذاتها في كل مرة «يتوضع» فيها أحدهم لالتقاط صورة ثياب نومه الجديدة!!