العمل والرياضة وتلف الدماغ
بروس ماكوين بروس ماكوين

العمل والرياضة وتلف الدماغ

إلى أن استوعبنا تأثير علم التخلّق «epigenetics»، كان يتمّ اعتبار دماغ البالغين مستقراً من الناحية الهيكليّة، وكان التركيز الرئيسي لفهم وظائف الدماغ الطبيعيّة وغير الطبيعيّة هو الكيمياء العصبيّة والفارماكولوجيا العصبيّة. خلال الثمانينيات، اعتمد المهنيون بشكل كبير على مضادات الاكتئاب مثل بروزاك ومجموعة من الأدوية المضادة للذهان، من أجل مساعدة المرضى على الشفاء.

تعريب: عروة درويش

ثم أتت إليزابيث غاولد عام 1988، وهي الآن عالمة أعصاب وبروفسورة في جامعة برينستون، إلى مختبري وهي تحضّر للدكتوراه. لقد عرّفتنا على طريقة قديمة في العلاج تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، وعلى عالم الأعصاب الإيطالي كاميلو غولغي الذي فاز بجائزة نوبل عن ذلك العلاج. تسمح تقنيّة غولغي، إذا ما تمّ تطبيقها بشكل صحيح، للمفتّش بتصوّر وقياس التغصنات العصبيّة «dendrites» (وهي مثل أغصان الشجر) الناشئة من العصبونات، وحتّى بقياس النتوءات (وهي مواقع التشابك أو الاتصال بالعصبونات الأخرى) على تلك التغصنات. أظهر استخدامها لتقنيّة غولغي، ودمجها مع تقنيّة عالم النفس البيولوجي الياباني يوشيفومي واتانابي، بأنّ التغصنات تتقلّص ويتمّ فقدان النتوءات في عصبونات الحصين بعد المرور بتوتّر سام يدوم لعدّة أسابيع (يقوم التوتّر السام بزيادة اهتلاك الجسم بتحميله فوق طاقته نتيجة اختلال توازن الوسطاء الكيميائيين-الحيويين مثل الأدرينالين والكورتيزول، وبقاءها نشطة في الجسم أكثر ممّا ينبغي – لمعلومات أكثر انظر مقال التوتّر السام – قاسيون). يرجع هذا التأثير في جزء منه إلى أفعال الغلوكؤكورتيكويدات «glucocorticoids» مثل الكورتيزول. وكذلك أثبتت كاثرين وولي، البروفسورة في جامعة نورثويسترن، بأنّ نتوءات الاشتباك العصبي تأتي وتذهب أثناء الدورة الودقيّة «Oestrous» عند الجرذان (وهي المماثلة لدورة الطمث لدى البشر)، وذلك بسبب تقلبات هرمونات المبيض: الأويستراديول والبروجسترون.  

من المثير للاهتمام أنّه في كلتا الحالتين لم تعمل الهرمونات وحدها، وتطلبت وجود الناقل العصبي الرئيسيّ في الدماغ: الغلوتامات «glutamate»، وذلك من بين مجموعة وسطاء آخرين. وعليه، فإنّ الهرمونات المنتشرة لا تدخل الدماغ وترتبط بالمُستقبلات وحسب، بل تشارك أيضاً مع الناقلات العصبيّة الخاصّة بالدماغ بما ندعوه الآن «اللدونة التكيفيّة adaptive plasticity»: وهي التغييرات الهيكليّة في الدماغ التي تعزز نجاحنا وبقائنا على قيد الحياة. تقف اللدونة التكيفيّة وراء تكيفنا السلوكي والعصبي مع العالم. على سبيل المثال: يحمي انكماش النتوءات في الحصين تلك العصبونات من التلف بسبب التحفيز الزائد أثناء التوتّر السام. تقف التقلبات الدوريّة لنتوءات الاشتباك العصبي أثناء الدورة الودقيّة (ودورة الطمث البشريّة) وراء الاختلافات في السلوك، ويتضمن هذا تقلّب المزاج. لقد أصبح تأثير هرمون الأويستراديول في الوظيفة المعرفيّة وفي غيابها بعد انقطاع الطمث، محلّ تركيز العلاج الهرموني الهادف لإبطاء الشيخوخة ومنع الإصابة بالزهايمر. لقد فتحت الأبحاث الطريق واسعاً لاستخدام هرمون البروجسترون كعامل وقائي ضدّ الشيخوخة وتلف الدماغ.

لقد قامت غاولد مع طلابها وُلي وهيذر كاميرون أيضاً بإثبات أنّ العصبونات في التلفيف المسنن «dentate gyrus»، وهو جزء من الحصين، تموت ويتم استبدالها عبر عمليّة تخلّق النسيج العصبي «neurogenesis»، وهو الأمر الذي يستمرّ طوال الحياة. لقد وجدوا بأنّ التوتّر السام يقوم بتثبيط عمليّة تخلّق النسيج العصبي هذه، ويقلّص حجم الحصين. وقد وجد باحثون آخرون بأنّ النشاط البدني يزيد تخلّق نسيج الخلايا العصبيّة لدى الحيوانات اليافعة والأكبر سنّاً.

لهذه الاكتشافات عن تخلّق نسيج الدماغ العصبي تأثيرات كبرى، ليس فقط بسبب تمكنها من استخدام الخلايا الجذعيّة «stem cells» أو الخلايا السلفيّة «progenitor cells» في علاج التلف الدماغي، بل أيضاً بسبب ما يعنيه مثل هذا الاكتشاف بالنسبة لنمط الحياة. يزيد النشاط البدني المنتظم هذا التخلّق العصبي لدى كبار السن مثلما يزيده لدى اليافعين، ويحسّن الذاكرة والمزاج ويقوم حتّى بزيادة حجم الحصين، وهو ما يؤدي إلى تقليص الاكتئاب والسكري من بين أشياء أخرى. إنّ ممارسة نشاط بدني في الهواء الطلق، مثل المشي، لمدّة ساعة يومياً لمدّة سبعة أيام أسبوعياً، يمكنه في غضون ستّة أشهر أن يضخّم الحصين ويحسّن الذاكرة، ويمكنه أيضاً أن يحسّن اتخاذ القرارات عبر تحسينه لتدفق الدم وللوظيفة الأيضيّة في قشرة الفصّ الجبهي، وهي المنطقة الأساسيّة في التنظيم الذاتي للعواطف وللحوافز وللذاكرة العاملة. في الواقع، إنّ النشاط البدني المنتظم هو أكثر سلوك مهمّ يمكن للمرء أن يقوم به من أجل الحفاظ على صحّة الدماغ والجسد. لتوضيح التواصل بين الدماغ والجسد بشكل أكبر: تحتاج التمارين كي تتمكن من تحفيز التخلّق النسيجي العصبي إلى هرمونين على الأقل، يتم أخذهما من الجسم إلى الدماغ: يأتي أحدهما (IGF-1) من الكبد، ويأتي الآخر (catherpsin B) من العضلات.

تمتدّ لدونة الدماغ إلى دورة النوم والاستيقاظ اليوميّة، وتصل إلى ما وراء الحصين ومناطق الدماغ الأخرى. وجد كونور ليستون، وهو حالياً مساعد بروفسور في كليّة ويل كورنويل للطب، بأنّ بعض نتوءات الاشتباك العصبي (وليس جميعها) الموجودة في العديد من أجزاء القشرة الدماغيّة، تتحرّك «turn over» خلال الليل بسبب تقلبات الكورتيزول. تتداخل المقاطعة لتلك الدورة في الوقت الخاطئ من النهار، لتشكّل عاملاً معيقاً للتعلّم الحركي، مثل تعلّم كرة القدم على سبيل المثال. وبالنظر إلى عدد الطرق التي تتداخل فيها البشريّة المعاصرة مع إيقاع النوم والاستيقاظ اليومي (مثال: إشعال الأنوار ليلاً)، فهذا درس لنا جميعاً من أجل منح «حكمة الجسد» الفرصة لتخدمنا على نحو أفضل.

هناك طريقة أخرى نتدخل فيها بالدورة الطبيعيّة: من خلال نوبات العمل وإرهاق ما بعد السفر. لقد وجد الدكتور إيليا كاراتسوريوس، البروفسور المشرف في جامعة واشنطن، بأنّ إنشاء نموذج حيواني للعمل في نوبات قد تسبب تقلصاً في التغصنات العصبيّة في قشرة الفصّ الجبهي، أي في المنطقة من دماغنا التي تحكم قدرتنا على تنظيم المشاعر والحوافز والذاكرة العاملة، ليصبح حيوان الاختبار خاملاً معرفياً عندما يتمّ تعريضه لمهام في الذاكرة تتطلّب تغييراً في القواعد. علاوة على ذلك، أصبحت الحيوانات العاملة بنوبات أكثر بدانة وأكثر مقاومة للأنسولين، وهي الإشارات الأوليّة على السكري والسلوك الناجم عن الكآبة. يرتبط العمل بنوبات لدى نوعنا ببدانة أكبر وبالإصابة بالسكري وبأمراض القلب والأوعية الدمويّة وبالمشاكل الصحيّة العقليّة.

تستجيب قشرة الفصّ الجبهي أيضاً لما ندعوه «التوتّر القابل للتحمل» (عندما يحدث شيء سيء ولكنّنا نملك الموارد الذاتيّة والمحيط الداعم الذي يسمح لنا بتخطيه). وجد الباحث ليستون، أثناء تقييمه لمجموعة من طلّاب الطب من حيث مدى التوتّر الذي أصابهم، بأنّ الذين لديهم أعلى مستويات من التوتّر كانوا الأكثر بطئاً في اجتياز اختبارات المرونة المعرفيّة، وتبيّن عند تعريضهم لجهاز الرنين المغنطيسي بأنّ لديهم أبطأ ترابط وظيفي في الحلقة الدماغية التي تتضمن قشرة الفصّ الجبهي. إنّ السبب الذي يدعونا لتسمية هذا النوع من التوتّر بأنّه «قابل للتحمل» هو أنّ هذه الإعاقات تختفي بعد أخذ عطلة، ممّا يدلّ على مرونة دماغ البالغين الشباب. سمحت دراسات أخرى أجراها ليستون على نماذج حيوانيّة، برؤية انكماش التغصنات العصبيّة وتقلّص نتوءات الاشتباك العصبيّة في قشرة الفصّ الجبهي، ممّا يشرح العجز الذي حدث في المرونة المعرفيّة.