العلم الزائف ينتج قصصاً جميلة
تيد شاينمان تيد شاينمان

العلم الزائف ينتج قصصاً جميلة

ثلاثة عملاء يسيرون في موقع حانة تعود إلى ما قبل التاريخ في إيسلندا، حيث وجدوا عظاماً متنوعة على مقاعد الحانة، عظام بشر وديناصورات.

تعريب: عروة درويش

كان عالم الآثار الأول، وهو يصف نفسه بأنّه علمانيّ تجريبي، مذهولاً بترتيبات الجلوس وآليات التخمير، وبدأ بكتابة مقال تخميني عن «عادات الثمل لدى الإنسان القديم». لكنّه رفض تقبّل عظام الديناصور بينما كان يبتسم، بوصفها عمل فارغ لأحد الفنانين. يهمل إجراء فحوص الكربون لتحديد الزمن على عظام الديناصورات.

أمّا عالم الآثار الثاني، فهو متقيّد بالكتاب المقدس، وهو مذهول بدوره بفكرة أنّ الإنسان لم يتعايش مع الديناصورات على الأرض وحسب، بل كان يثمل معها أيضاً. ينشر هذا العالم اكتشافاته بسرعة في إحدى البوابات الإلكترونيّة التي تؤيد فكرة الخلق. يهمل أيضاً أن يجري فحص الكربون لتحديد الزمن على عظام الديناصور.

ثمّ يأتي العالم الثالث، وهو قوميّ أيسلنديّ متعصّب، فيستغلّ الحانة ليحوّلها إلى دليل على أنّ أيسلندا قد سبقت بقيّة العالم بفترة 12 ألف عام في اختبار البيرة وألعاب الشرب وثقافة الاجتماع. يقوم بنشر مقالٍ انتصاريّ يعجب فيه بتفوّق العرق الأيسلندي في ضوء هذه الاكتشافات الجديدة. هو في الحقيقة لم يفكّر بالديناصورات كثيراً.

إنّ القصص الثلاثة السابقة هي خياليّة بكل تأكيد، ولكنّها أمثلة مفيدة عن الخدع الآثاريّة، وعن صعوبة عدم ربط الأيديولوجيا بالمواد التاريخيّة. هناك سبب يدفعنا لقبول هذه الخدع، مثل خدعة «كفن تورين» أو أجزاء «زوجة المسيح». فالعلم الزائف ينتج قصصاً جميلة.

تصبح البقايا المتحجرة لثعبان البحر أكثر إثارة للاهتمام بكثير عندما تسميها «تنيناً»، وهكذا فالعلم الزائف جيّد من أجل الأعمال والمال. والأهم من ذلك، من المغري أن نمنح أنفسنا دوراً أكبر في قصّة التاريخ الكبرى، تماماً كما هو مغري أن ننطلق للبحث عن دليل قديم على أكثر الإيمانات رسوخاً في عقولنا.

نصف قرد ونصف إنسان:

غالباً ما تكون أكثر الخدع الأثريّة إتقاناً هي الأكثر صعوبة في تعيين دافعها. لنأخذ مثلاً جمجمة «إيوانثروبوس Eoanthropus» أو رجل بيلتداون، الذي وجده في منطقة سوسكس عالم الآثار البريطاني الهاوي تشارلز داوسون، حوالي 191. قدّم داوسون بقايا، أو جمجمة كائن رئيسيّ بالأحرى، إلى الجمعيّة الجيولوجيّة في لندن في كانون الأول/ديسمبر 1912، ليحصل على تهليل يصمّ الآذان.

صُنعت جمجمة بيلتداون من مزج فكّ سفلي لقرد مع قحف هومو سابين. أعلنت صحيفة النيويورك تايمز في ذلك الوقت عن الإثارة التي جلبتها رفات داوسون بالقول: «إنّها الجمجمة من العصر الحجري القديم هي الرابط المفقود، وكائن بيلتداون أقدم من إنسان الكهف». وقد وصفت صحيفة التايمز اللندنيّة إيوانثروبوس داوسون بأنّه: «أوّل دليل على نوع جديد من البشر».

كما قال عالم الآثار مايلز راسل عام 2003 في كتابه: حياة تشارلز داوسون السريّة: «لقد كانت الأخبار الجيدة بالنسبة للبريطانيين... أنّ الإنسان الأوّل المعروف لم يكن فرنسياً ولا إيطالياً ولا صينيّاً ولا إفريقيّاً، بل كان بريطانياً». لقد متّع الإنكليز أنفسهم لقرون بأساطير الأصول التي تقول بأنّ السكسون متحدرون من بروتوس، وهي الفكرة التي تضع بريطانيا القديمة في صفّ روما، والتي تجعل من امبراطوريتهم أمراً مقبولاً. ثمّ كان هناك سيف إكسكاليبر، أو القديس جورج مع التنين. ثمّ ألم يكن أمراً ممكناً الحدوث، كما قال وليام بليك في قصيدته القدس عام 1808، أن يكون المسيح قد مشى على هضاب إنكلترا الخضراء؟

لكن في عام 1953 تمّ تبديد الأسطورة التي تقول بأنّ البريطانيين قد تطوروا قبل بقيّة الأجناس، مثلما تتبدد كتلة غبار طلع في الريح. فقد تم اكتشاف أنّ الجمجمة ليست أكثر من خليط من فكّ قرد وأسنان شمبانزي وقحف بشري. لم يكن عمر تلك الجمجمة يبلغ أكثر من نصف قرن على الأكثر، وبدا واضحاً كيف تمّت معالجتها بالحمض والصدأ المعدني من أجل صنع قشرة تعود لما قبل التاريخ. تمّ انتقاد داوسون بشكل كبير جدّاً، رغم احتماليّة أن يكون هو نفسه قد وقع ضحيّة خدعة.

اليابانيون أكثر عراقة!؟

ظهر هاجس التفوّق الجيني الذي أغرى داوسون بشكل حديث أكثر، وبطريقة مخزية أكثر، في اليابان. علينا أن نتذكّر بأنّ التزييف الأكثر إثارة للغضب هو ذلك الذي يقوم به الخبراء.

أكثر هذه الخدع شهرة هي التي قام بها عالم الآثار الياباني شينيشي فوجيمورا، المدير السابق لمعهد توهوكو للعصر الحجري القديم. اعتد زملاء فوجيمورا على تسميته «يد الله» بسبب اكتشافاته المذهلة لقطع أثريّة من العصر الحجري القديم، في أكثر أماكن اليابان غير المحتملة.

كان أوّل اكتشاف بارز لفوجميورا هو مجموعة حجريّة متنوعة، أرّخ فريقه عمرها بأربعين ألف عام. أمّا الاكتشافات اللاحقة فقد تمّ تأريخها بخمسمائة ألف عام، وشملت آثار معماريّة متطوّرة بشكل غريب. بين عام 1980 و2000، نقّب فوجيمورا في حوالي مائتا موقع في اليابان، ومثلما حدث مع بيلتداون البريطاني، أشارت مكتشفاته إلى أنّ بلاده كانت مأهولة بالسكان منذ فترة أطول بكثير من الاعتقاد السائد.

وقد سُمع بعض خبراء الآثار اليابانيون وهم يهمهمون في السر بأنّ هذه الاكتشافات سهلة الوصول بشكل مريب، وبات من المستغرب أن تعود اكتشافات فوجيمورا بالزمن لتصبح أقدم فأقدم. لكنّ فوجيمورا استمرّ بالنشر، وأومأ زملاؤه بالموافقة عليه، وبات بإمكان اليابان أن تفخر بانتسابها لثقافة أقدم بكثير ممّا كان يمكن لأيّ أحد أن يتصوّر.

وبفضل سمعة فوجيمورا الأكاديميّة القويّة، لم يكن هناك من يتحدّى «اكتشافاته»، وباتت تظهر في الكتب المدرسيّة. واستمرّت عمليات التزييف فترة طويلة، وحصلت على قبول كاف، وعلى توافقٍ في الآراء حولها جعلها تكون هي الأساس للموافقة على المنح اليابانيّة بخصوص العصر الحجري القديم.

ولكنّ هذا العرض انهار عام 2000، عندما نشرت صحيفة مانيشي شيمبون فيديو لفوجيمورا وهو يدفن عدّة قطع يعتزم اكتشافها في اليوم التالي. ومع هذا الفيديو تمّ دفن سمعة فوجيمورا بسرعة، لتتلقى المؤسسة الآثاريّة اليابانيّة ضربة لا تزال تتعافى منها. وكما أعلن معهد أمريكا للآثار في ذلك الوقت: «بناء على اعترافاته، فإنّ انخراط فوجيمورا في عدّة اكتشافات هامّة في هذه المواقع، هو من صاغ العديد من الأفكار الجوهريّة حول العصر الحجري القديم في اليابان، والذي بات من ضمن الكثير من الكتب الدراسيّة، وعليه فقد بات محلّ شك... أزال متحف طوكيو الوطني أكثر من 20 قطعة أثريّة اكتشفها فوجيمورا من العرض، وبقيّة المتاحف تتبع خطاه». كما قام توشياكي كاماتا، رئيس معهد توهوكو الذي لطخت سمعته، بالاستقالة على الفور قائلاً: «ليس هناك ما يمكن قوله. فمع كلّ هذه التغطية الإعلاميّة، عملنا على مرّ السنين الماضية بات مجرّد ركام».

ربّما الأمر الأكثر إذهالاً هنا، هو أنّ فوجيمورا لم يجني الكثير من المال جرّاء احتياله. يبدو بأنّ فوجيمورا أراد ياباناً أقدم، وطالما أنّ الأرض لا تشير إلى ذلك، فقد كان لزاماً عليه أن يوفّر لها المؤونة لذلك.

زوجة المسيح:

كما أنّ الأيديولوجيا تسود أيضاً في واحدة من المدارس الآثاريّة المنيعة أساساً ضدّ الكشف التجريبي: إنّه علم الآثار المقبول دينيّاً. إنّ بعضاً من أكثر الخدع الغريبة قد دفع بها الدين بكل تأكيد. لقد استفادت كنيسة روما بشكل لا يصدّق من المال والنوايا الحسنة بفضل مجموعتها الغريبة من أجزاء الجسد الذي يفترض قدسيتها. كيف لنا أن نرفض التمسّح بفخذ مقدّس، أو بعظم ترقوة صالحة؟ كم هناك من العلل الجسديّة والروحيّة التي يمكن لخصلة شعر أن تشفيها؟

القطعة الأكثر قداسة بكلّ تأكيد هي التي تبرّع بها شارلمان إلى البابا ليو الثالث لشكره على تتويجه كإمبراطور. أنا أتحدّث هنا عن غُلفة/قُلفة المسيح المقدسة التي كانت شعار رباطهم الوثيق. كيف حصل شارلمان على هذه القطعة العجائبيّة من اللحم؟ لقد ادّعى بأنّها ظهرت نتيجة دعوات المصلين، رغم أنّ آخرين يقولون بأنّها هديّة من الإمبراطور البيزنطي بمناسبة زواج شارلمان.

لقد ألهمت هذه الغُلفة الكثير من النسخ المقلدة. كتب ديفيد فارلي في عام 2006: «بناء على المعلومات المتوافرة، كان هناك ما بين 12 و18 نسخة عن الغُلفة المقدسة في مدن أوروبا المتنوعة خلال العصور الوسطى». لقرون طويلة، ادّعت بلدة كالكاتا الواقعة بين روما وفيتربو، بأنّ لديها أقدم غُلفة مقدسة، إلى تمّت سرقتها عام 1983 من صندوق أحذية في خزانة كاهن القرية. وإيّاكم والتصوّر بأنّ هكذا قطع قد فقدت قيمتها في زماننا. لنأخذ كفن تورين مثالاً، ففي هذا العام، حجز مليون شخص بالفعل ليتمكنوا من رؤيته.

لكنّ أجزاء ما يسمّى «زوجة المسيح» قد أثبتت بأنّها أقلّ إثارة للاهتمام للحجّاج الكاثوليكيين، منذ ظهورها للعلن عام 2012. تشير ورقة البردي القبطيّة المسمّاة <زوجة المسيح> إلى أنّ المسيح قد قال «زوجتي»، ولكنّها النقيض لكفن تورين: فبدلاً من التأكيد على الأناجيل السينوبتيّة، يفسد هذا البردي مفاهيم روما الأكثر تقديساً عن المسيح. حيث أنّه وفقاً للكنسية قد فضّل تلاميذ ذكور على تلاميذ إناث، وأنّ عزوبة المسيح هي واجب إجباري على جميع رجال الدين المسيحيين.

فمن حيث كلا التكوين وبناء الجمل، فإنّ أجزاء بردي «زوجة المسيح» تثير الريبة. فاستخدام الفرشاة القبطيّة، بدلاً من قلم القصب الأكثر تقليديّة، أمر غريب من حيث أغراضه غير المباشرة. ورغم أنّ هارفارد قد قدّرت بأنّ عمر الورقة نفسها يعود إلى القرن الثامن، فقد أشار الباحثون بأنّ محتالي القرن العشرين يمكنهم بسهولة أن يكتبوا بالفرشاة القديمة بشكل غير جيّد على ورقة فارغة من البردي القديم.

ورغم أنّ علماء الكتابات القديمة قد يتذمرون من «زوجة المسيح»، فإنّ «اكتشافها» قد حفّز على الأقل النقاش المتجدد والقوي حول دور النساء بين تلاميذ المسيح: من حملن اسم مريم، ورسولة تدعى جونيا وفيبي التي وصفها بولس للرومان بأنّها «شمّاسة».

كتب اختصاصيّا اللاهوت جول بادن من جامعة يال وكانديدا موس من جامعة نوتردام العام الماضي: «في أغلب الأحيان، تأتي النصوص والروايات التي تدعم فكرة وجود أنثى بين التلامذة، من خارج سلك الكهنوت التقليدي. وهذا ليس أمراً مفاجئاً نظراً إلى العهد الجديد الكنسي قد تمّ جمعه بعد موت المسيح، من قبل كنيسة ذات قياد ذكوري».

إن كانت بردي «زوجة المسيح» خدعة، فيمكننا فهم الدافع إلى تزييفها: استعادة التجربة الدينيّة من أولئك الذي يصورونها على أنّها مقاطعة يسيطر عليها الذكور، واستعادة نسخة من المسيح الذي يعطي للنساء دوراً مساوياً في إحدى أكثر الدوائر قرباً منه.