علم وراثة النخب المهيمنة
عرف وكيّف المزارعون في وقت مبكر «عناصر» مندل قبل أن يوجد مندل أو الحضارة الأوربيّة بأكملها
ستيوارت نيومان ستيوارت نيومان

علم وراثة النخب المهيمنة

لأكثر من قرن، هيمن مفهوم الجين على العلوم البيولوجيا في «الشمال العالمي». بعد آلاف السنين من زراعة النباتات وتربية الحيوانات، وهي البيولوجيا الاختباريّة الأصليّة التي يمكن تتبعها إلى مئات آلاف السنين من البيولوجيا الرصديّة بدءاً من الصيادين-الجامعين، فإنّ صعود علم الجينات قد فتح نافذة على كيفيّة العمل الداخلي للأنظمة الحيّة، واستولى بشكل عدائي على جميع المعارف البيولوجيّة التي سبقت ظهوره.

تعريب: عروة درويش

لكن بالرغم من قبضته الحديديّة على الثقافة العلميّة للمجتمعات الثريّة، فإنّ عهد الجين بوصفه «سرّ الحياة» قد شارف على نهايته. فكلّما عرفنا أكثر عن النظم الطبيعيّة، أو كلّما أعدنا تعلّم – كما هو الأمر في الكثير من الحالات – ما كنّا نعرفه بشكل تقليدي، كلّما أصبح الأمر أكثر وضوحاً بأنّ الجينات هي فئة واحدة فقط من العوامل التي تسبب النمو (التغيّرات التي تحوّل الأجنّة إلى حيوانات ونباتات كاملة)، والتطوّر (تحوّل الكائنات البسيطة إلى أكثر تعقيداً على مدى تاريخ الحياة). غير أنّه من المثير للجزع، حتّى مع فقدان مفهوم الجينات القويّة سطوتها العلميّة، أنّها تكسب زخماً إيديولوجيّاً جديداً في حيازة وتخصيص الموارد، ممّا يساعد على تعزيز عدم المساواة بين المجموعات العرقيّة والطبقات الاجتماعيّة-الاقتصاديّة. كيف تمّ هذا، وما الذي يمكننا القيام به كي نوقفه، هو ما تدور حوله هذه المقالة.

في عام 1931، وصف مؤرخ العلوم السوفييتي بوريس هيسن كيف أنّ قوانين إسحق نيوتن للحركة، والتي تبدو كشواهد عالميّة على فهمنا للعالم المادي، قد تمّ إنتاجها بشكل جزئي كاستجابة للاحتياجات التقنيّة للصناعة الإنكليزيّة الناشئة في القرن السابع عشر. بالمقابل، كانت النظريّة مغروسة في إيديولوجيا عصرها، وشكّلت مع رؤيتها السكونيّة (الستاتيكيّة) للعالم عقبة أمام المزيد من التقدم. أظهر هيسن كيف أنّ التحليل العلمي للمادّة غير الميكانيكيّة (ركّز على الديناميكا الحراريّة Thermodynamics، لكنّ حجاجه اشتمل على الكيمياء وعلم الأحياء أيضاً) قد تمّت إعاقته عبر النموذج النيوتوني. حتّى مفهوم الحفاظ على الطاقة، وهي نتيجة رياضيّة واضحة لقوانين نيوتن للحركة، لم تتّسق بشكل منتظم إلّا بعد موت نيوتن. كان هذا على الأرجح بتأثير السمة غير الديالكتيكيّة للنظريّة النيوتونيّة: لقد تمّ التركيز فقط على الكتلة، واستُبعد كلّ من التبديد (تآكل الطاقة) والممارسات الإنتاجيّة غير الميكانيكيّة، مثل علم المعادن أو الطاقة البخاريّة.

ومنذ هيسن (وبالتالي كارل ماركس وفريدريك إنغلز اللذين ألهمت فلسفاتهما تحليله) لم يعد بإمكان مراقبي العلوم الصادقين أن يتجاهلوا بُعدها الإيديولوجي. وهذا ينطبق بكل تأكيد على الجين. عندما أجرى غريغور مندل تجاربه في إنسال (Breeding) النباتات في مورافيا في القرن التاسع عشر، استخدم ذات الأساليب التي كان يستخدمها المزارعون لآلاف السنين. اكتشف عبر تسجيله للنتائج كميّاً، ارتباطات متّسقة «للعناصر» (وهي ما ندعوه بالجينات) التي تحملها بذور النباتات، مع خيارات تمّ اعتمادها في وقت لاحق من التطوّر من بين السمات البديلة، مثل سيقان طويلة أو قصيرة، وأكواز متضخمة أو ضيقة. يشير التبصّر البسيط إلى أنّ هؤلاء الذين أنتجوا الذرة أوّل مرّة من فصيلة أعشاب (teosinte) في المكسيك منذ تسعة آلاف عام، لم يقوموا بذلك بشكل عشوائي، بل فعلوا ذات الشيء الذي فعله مندل: فقاموا بالإنسال عبر الاختيار والتهجين مع مراقبة دقيقة للنتائج، وغالباً باستخدام أنظمة حفظ السجلات المستعملة في أمريكا الوسطى، والتي كانت مشهورة باستخدامها في التقويم وعلم الفلك ومشاريع الهندسة الكبرى والمشاريع المدنيّة.

وعليه فقد عرف وكيّف المزارعون في وقت مبكر «عناصر» مندل قبل أن يوجد مندل أو الحضارة الأوربيّة بأكملها. بأيّ حال، إنّ الذي كان على المحك في الزراعة التقليديّة هو خواص الكائنات الحيّة بكاملها (مثال: نباتات الذرة) في سياق ظروف زراعتها. يمكن للاختلافات في الظروف الخارجيّة، مثل درجة الحرارة أو الرطوبة أو نوعيّة التربة، أن تثير أنماط شكليّة (Phenotypes) متباينة – من ناحية الهياكل والوظائف – مؤكدة كما تفعل الاختلافات الجينيّة تماماً. علاوة على ذلك، قامت العوائل والمجتمعات المحليّة بعمليات الإنسال الاجتماعي للأشكال المفضلة، وذلك بدلاً من القيام بذلك بشكل تجاري (كما هو الحال في الشمال بشكل متزايد)، وبأصناف متعددة بدلاً من الزراعة الموحدة التي تقوم النمذجة الصناعيّة بفرضها. لقد كان الحفاظ على تنوّع الأنماط الشكليّة البيئيّة هو القيمة العلميّة العليا التي سادت بين أولئك الناس الذين أعطوا هذه المحاصيل وجودها، وعليه لم يكن لديهم سبب لردّ الطبيعة الحيويّة للذُرة إلى عوامل مخفيّة في أصغر وأكثر مراحلها سكوناً.

ليس من المستغرب إذن أنّ عمل مندل لم يجذب في البداية إلّا انتباهاً ضئيلاً بين العلماء والمزارعين. ففي حين أنّ هذا الاستقبال البارد يعزّى في كثير من الأحيان إلى التطبيقات الصعبة والجذريّة لأفكاره، فالاحتمال الأكبر هو أنّ هذه العناصر الكامنة في بذور النباتات (أو البيض أو نطاف الحيوانات) التي تنبأ عن سمات الكائن الحيّ المتطوّر، كانت عناصر مألوفة وذات جذور قديمة. وفي حين أنّ اكتشافات مندل عن النسب العدديّة للمورثات كانت جديدة دون شك، فإنّها لم تكن قابلة للتطبيق عموماً. في الواقع، رغم أنّ «جينات مندل» قد أصبحت في نهاية المطاف مثل الصنم بالنسبة لأسس الوراثة، فإنّ جزءاً صغيراً فقط من السمات البيولوجيّة هي سمات موروثة وفقاً لقوانين مندل: فحتّى مندل نفسه وجد استثناءات «لقوانينه عن الفاصولياء». هذه السمات التي تأخذ سلوكاً على طريقة المندليّة الكلاسيكيّة، هي في غالبها استطلاعيّة أو مرضيّة. رغم أنّ بعضها، مثل زمر الدم، هي ذات أهميّة طبيّة كبرى.