بدعة تحسين النسل
الأسمدة باهظة الثمن والمبيدات الحشريّة المطلوبة لاعتماد هذا النموذج الزراعي قد أدّيا، وذلك ضمن إطار النظم الموجهة ناحية الأعمال التجاريّة، إلى خصخصة الأراضي المجتمعيّة والمزارع المعاشيّة
ستيوارت نيومان ستيوارت نيومان

بدعة تحسين النسل

في أواخر القرن التاسع عشر، واجه الصناعيون في أوروبا والولايات المتحدة مطالب متزايدة من العمّال المنظمين سياسيّاً من أجل الحصول على حصّة أكثر عدلاً من الثروة التي خلقوها بأنفسهم. وفاز العبيد أخيراً بحريتهم وكانوا يأخذون مكانهم في المجتمع كمواطنين متساوين، ولو بشكل اسمي على الأقل. وكانت النساء ينتظمن للحصول على حقّ الاقتراع ويسعين لرمي قيود النظام البطريركي-الأبوي. في وسط هذه الظروف من المقاومة المتصاعدة، ابتكر الإحصائيّ البريطاني فرانسيس غالتون مفهوم تحسين النسل، وهو برنامج للتحسين البيولوجي المفترض للجنس البشري عبر الوسائل الوراثيّة. لأوّل مرّة يقوم عالم يتبع الاتجاه السائد، بمناقشة الإنسان ضمن أطر كانت مخصصة فيما سبق للمحاصيل والماشية. رغم أنّ غالتون قد بدأ عمله بسمات قابلة للقياس مثل الطول والوزن وطول الأطراف، فسرعان ما شرع في التكهن حول الأسس الوراثيّة للذكاء والجمال. وبطبيعة الحال، فإنّ الاعتقاد بعدم المساواة العنصريّة وبالنخب و«بتكاثر» البشر، قد كانت متأصلة في نظم الرق والهيمنة الاستعماريّة. غير أنّ النخب في أيام غالتون، وهم الذين نظروا إلى العبوديّة التي تمّ إلغاؤها في بريطانيا كأمر محرج، أمكنهم في حينه أن يبرروا سلّم الرتب الاجتماعيّة الذي انتفعوا منه تبعاً لحقّهم الطبيعي الناجم عن عضويتهم الجينيّة المفترضة في الأرستقراطيّة.

تعريب: عروة درويش

مثل مندل، الذي لم يعرف عمله أبداً، ومثل كلّ زارع نباتات ومربي حيوانات أتى من قبل، تعقّب غالتون انتقال الاختلاف من جيل لآخر، بفرق أنّه استخدم أساليب إحصائيّة متطورة. لكن خلافاً لمندل، كان أكثر اهتماماً بالمتغيرات المستمرّة (التغيّرات الطفيفة في كلّ جيل) من اهتمامه بغير المستمرّة (التغيّر المفاجئ). جعل هذا من أفكار غالتون متوافقة مع النظريّة التطوريّة لقريبه تشارلز داروين، الذي كان مقتنعاً بأنّ للتغيرات غير المستمرّة لدى النباتات والحيوانات (والذي سمّاها المزارعون البريطانيون رياضة) دوراً ضئيلاً في توليد أشكالٍ جديدة قابلة للحياة.   

لم تصمد أفكار داروين عن التدريجيّة مثل بعض أفكاره الأخرى. يتوافق علماء بيولوجيا القرن الحادي والعشرين التطوريين على أنّ كلا التغيّرات المفاجئة وبالتدريج قد شكّلت الكائنات الحيّة خلال تطورها. تطوّر الذرة عن التيوسنت هو فقط مثال واحد على كيفيّة تحوّل التغيّرات المفاجئة، تحت إشراف الإنسان، إلى مجموعة من الأصناف المتنوعة. والكثير من الأدلّة تشير إلى أنّ نفس العمليّة تحدث خلال التطور الطبيعي. وعلى النقيض من نظريّة داروين عن الانتقاء الطبيعي، فإنّ الكائنات ذات الأنماط الشكليّة الجديدة لا تنشأ دائماً على مدى أجيال عديدة، جرّاء المنافسة بين الأفراد المختلفين عن بعضهم بشكل ضئيل، داخل الجماعة المشتركة. غالباً ما تزدهر شريحة السكّان الثانويين الجدد، عبر ابتكار طرق جديدة للمنافذ الإيكولوجيّة التي لم تكن موجودة من قبل.

إنّ البديل للداروينيّة يدعى «التحوليّة mutationism»، وقد نوقش على نطاق واسع في بداية القرن العشرين، لكنّه فشل في البقاء صامداً. يعود هذا بشكل جزئي إلى المقت الذي يكنّه المفكرون البرجوازيون وممولوهم تجاه أيّ نظريّة، سواء اجتماعيّة أو علميّة، تبرز التغيير الجذري. لكنّ مدرسة غالتون الإحصائيّة البيولوجيّة (biometrics) لم تكن قادرة على استنباط آليّة للوراثة تعتمد على المحددات المستمرّة، لذلك أصبحت المندليّة مع عناصرها غير المترابطة (الجسيمائيّة particulate) هي وجهة النظر السائدة.

وهكذا، ومن أجل افتعال اتصال مع الإحصاء البيولوجي ونظريّة التطوّر الداروينيّة ذات الشعبيّة، كان يجب تنقيح نموذج مندل بحيث لا يمكن تمييزه. حدثت عمليّة الامتصاص هذه على عدّة خطوات: الخطوة الأولى هي البدء بما أصبح يدعى «التركيب الحديث modern synthesis»، وهي التأكيد على أنّ السمات التي أخذها داروين بالاعتبار قد تأثّرت بالعديد من الجينات. وقد أظهرت الأعمال اللاحقة أنّ هذا صحيح، رغم عدم وجود أشياء منفصلة أو جسيمائيّة في الطريقة التي تتمّ فيها هذه التأثيرات. الخطوة الثانية هي الادعاء بأنّ تحديد السمات يتمّ بشكل حصري عبر هذه الجينات، وهذا غير صحيح: فجميع السمات تقريباً تسببها محددات غير جينيّة وجينيّة معاً. مثال: تنشأ معظم الصفات التشكليّة (المورفولوجيّة) من الخصائص الفيزيائيّة المتأصلة في الأنسجة الحيّة (بصورة متناظرة مع الطريقة التي تكون فيها الأمواج متأصلة في الماء)، والتي يتم تحريرها وتنقيتها عبر عمل الجينات، لكنّ هذا العمل ليس هو من يسبّبها. الخطوة الثالثة قد تمّت بعد اختراع الحاسوب في منتصف القرن العشرين، فكانت تفترض بأنّ الكائنات الحيّة تتطوّر بتوجيه من «برمجيّات جينيّة» تشبه برمجيات الحاسوب. هذه الفكرة هي أيضاً مضللة للغاية: لم يتم تحديد مثل هذه البرمجيات على الإطلاق. علاوة على ذلك، ولزيادة التبسيط، فإنّ الفهم الأخير لكيفيّة اعتماد هياكل البروتينات (منتجات الجينات التي تمارس عبرها معظم وظائفها) على ما يحيط بها من البروتينات الأخرى، يجعل من المستحيل على الجينات أن تعمل معاً بشكل مشابه للبرمجيّات.

في حين أنّ هذه المفاهيم الخاطئة قد اكتسبت سطوة بين العلماء في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد حاز الجين حياة خاصّة به في المخيلة العامّة. أقنع كاتب مثل ريتشارد دوكنز الكثير من الناس بأنّ سمات الكائن الحي قد تطوّرت ببساطة من أجل خدمة آليات «أنانيّة» تسمح للجينات بنشر نفسها.

2:

عندما تمّت صياغة مفهوم الجين – جزء منه تجريبياً وجزء منه إيديولوجيّاً – أثناء أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كانت الإمبراطوريات الاستعماريّة الأوربيّة في أوجها. وبينما بدأت هذه الحقبة بالتداعي في أعقاب الحرب العالميّة الأولى، كان الباحثون الأكاديميون، مدعومين حكوميّاً وتجارياً بشكل متزايد، يهمّون بابتكار طرق لاستخدام الجينات من أجل الحدّ من خساراتهم. عنى هذا مقاومة مطالب السكان الأصليين وبقيّة السكان المهمشين، ومن بينهم الأعداد المتزايدة من عمّال الصناعة والزراعة، خاصّة وأنّ تكيّف القوى الكبرى قد قلّص من إمكانيّة نهب موارد المستعمرات السابقة.

وكان تفكير تحسين النسل السائد بين النخبة المتعلمة، والتي كانت تستخدمه لتبرير القيود العرقيّة على الهجرة، ولتبرير برامج التعقيم القسري في الولايات المتحدة وأوروبا (استمرّ بعض هذه البرامج حتّى سبعينيات القرن العشرين)، قد أفسد بشكل جزئي التضامن بين كامل العمّال، وهم الذين درسوا في المدارس وسمعوا في الإعلام السائد بأنّ بعض المجموعات أدنى بطبيعتها من غيرها. اعترف أنصار ألمانيا النازيّة في مشاريع التطهير التي استخدموه في الحرب العالميّة الثانية، بأنّهم يدينون بأفكارهم لكتابات تحسين النسل البريطانيّة والأمريكيّة الشماليّة في بدايات القرن العشرين، وقد كان بعض هؤلاء الكتّاب بكل أسف علماء أحياء ينتمون للجناح اليساري. بعد الحرب، أصبح تحسين النسل الصريح أمراً غير عصري، لكنّ موجة «توعية جينيّة genetic counseling» رقيقة قد ظهرت لتردع العائلات عن نقل جينات محددة إلى ذريتها المحتملة. كما أدّت المجالات الأكاديميّة للبيولوجيا الاجتماعيّة وعلم النفس التطوري إلى ظهور روايات تطوريّة أكدت الأساس الجيني للأدوار الاجتماعيّة الثانوية للنساء، والتي يشبهها عالما الأحياء الماركسيان ستيفن جاي غولد وريتشارد ليونتين بقصص كيبلنغ الخياليّة للأطفال.

في هذه الأثناء، وفّر التركيب الوراثي الزراعي فاعليّة لأعمال الزراعة التجاريّة في المدن الكبرى. فبحلول الستينيات على سبيل المثال، تألّف 90% من محاصيل الذرة في الولايات المتحدة من تشكيلة متنوعة من الهجائن الموحدة المملوكة لشركة. لكنّ مثل هذه الزراعة الأحاديّة كارثيّة. في عام 1970، قضت آفة ورق الذرة الجنوبيّة على 15% من محاصيل البلاد. كما تمّ اعتماد استراتيجيات أخرى ذات أساس جيني لزيادة الإنتاج الزراعي في «الجنوب العالمي»، أدّت لعواقب سلبيّة يمكن توقعها، نظراً لخضوعها لاحتياجات الاقتصاد السياسيّ الرأسمالي. مثال: كثيراً ما أدّت البذور الخارقة Super seeds من «الثورة الخضراء» إلى زيادة غلّة المحاصيل بشكل كبير، ممّا أدّى إلى التخفيف من بعض الجوع في البلدان التي اعتمدتها. غير أنّ الأسمدة باهظة الثمن والمبيدات الحشريّة المطلوبة لاعتماد هذا النموذج الزراعي قد أدّيا، وذلك ضمن إطار النظم الموجهة ناحية الأعمال التجاريّة، إلى خصخصة الأراضي المجتمعيّة والمزارع المعاشيّة. ونتيجة لذلك تمّ تدمير التشكيلات الاجتماعيّة الزراعيّة، وتشرّد ملايين البشر، وزاد الفقر في الأرياف بشكل ملحوظ.