ألمانيا: وهم «الوسط» يترك الألمان في حالة استقطاب قصوى
عدد من الكتّاب عدد من الكتّاب

ألمانيا: وهم «الوسط» يترك الألمان في حالة استقطاب قصوى

أغرت موجة الاحتجاج الأخيرة في ألمانيا المراقبين الدوليين بالتساؤل عمّا إذا كانت البلاد تبتعد عن ثقافتها السياسية التوافقية المحتفى بها. منذ بداية العام، بدا الأمر كما لو أن البلاد بأكملها متحدة في الاحتجاج. في البداية أغلقت عيادات الأطباء، ثم قام المزارعون بإغلاق الطرق والمباني الحكومية، وقام عمال السكك الحديدية بالإضراب مراراً وتكراراً، كما أضرب موظفو المطارات ووسائل النقل العام. وفي الوقت نفسه، تمتلئ الشوارع والميادين بالناس الذين يتظاهرون ضدّ السياسات اليمينية خارج وداخل الحكومة.

ترجمة وإعداد: قاسيون

لكنّ المظاهرات حتّى الآن كانت تحمل الكثير من التناقضات، فكان جزء من المنظمين في كثير من الأحيان هم من المنظمات المؤيدة للحكومة، والتي حاولت التشويش وقمع الانتقادات الموجهة إلى سياسات الحكومة الائتلافية المؤيدة للحرب والترحيل الجماعي. على سبيل المثال: دعا ديرك روربورن، رئيس المجلس التنفيذي لاتحاد صناعة السيليكون في ساكسونيا، إلى المزيد من خفض الوظائف والتخفيضات الاجتماعية باسم «الديمقراطية». ليضيف دعمه ودعم الحكومة للنزعة العسكرية والأمنية قائلاً: «ما الذي يحتاجه الاقتصاد إذن؟ يحتاج إلى الثقة، ويحتاج إلى مستثمرين يضعون المليارات هنا، ويحتاج إلى تخطيط أمني». مشدداً على أنّ هذه الثقة لا تُبنى على «الديمقراطية» فحسب، بل على: «الإدارة الموثوقة، والأمن، وأيضاً الأمن العسكري...».
ينفّذ الائتلاف الحاكم برنامج الحزب اليميني المتطرّف في الواقع الفعلي، ففي 18 يناير/كانون الثاني، أقرّ البوندستاغ «قانون تحسين العودة إلى الوطن»، والذي يسمح بسحب الأشخاص الذين يعيشون في ألمانيا منذ سنوات من أسرتهم ليلاً دون سابق إنذار، واحتجازهم وترحيلهم قسراً. الأمر الآخر هو دعمهم للحرب في أوكرانيا، وكذلك لعمليات الإبادة الجماعية في غزة. لكنّ الكثير من المنظمات التي شاركت في المظاهرات، والتي حظي متحدثوها باهتمام وتصفيق خاصين، أدانوا جرائم الحرب التي ترتكبها «إسرائيل» موضحين أنّ مثل هذه الانتقادات لا علاقة لها بمعاداة السامية. تقول إحدى المتظاهرات في برلين، ممّن يعون البعد الاجتماعي للمعركة السياسية في ألمانيا: «إن توزيع الثروة ببساطة غير عادل للغاية. هناك العديد من القضايا التي يتعين علينا معالجتها، وأعتقد أننا لا نستطيع أن نفعل ذلك إلا إذا ابتعدنا قليلاً على الأقل عن فاحشي الثراء».
بدا واضحاً بأنّ بعض القوى السياسية في ألمانيا تنضج بشكل سريع. جاء في بيان حزب SGP الاشتراكي بعنوان: «كيف يمكن هزيمة حزب البديل من أجل ألمانيا؟» «إنّ حزب البديل من أجل ألمانيا ليس جسماً غريباً في كائنٍ سليم، ولكنّه أسوأ أعراض نظامٍ مريضٍ تماماً. تماماً كما حدث قبل 90 عاماً، تؤدي الأزمة الرأسمالية المتفاقمة مرة أخرى إلى الفاشية والحرب»

ليس الشعب الألماني خارج التاريخ

إنّ الصورة النمطية السائدة عن الألمان بأنّهم محتجون باهتون ليست حقيقية، فتاريخهم مليء بالاحتجاجات. صحيح أن ألمانيا لم تشهد الكثير من الإضرابات العامة، مقارنة ببلجيكا أو فرنسا أو إيطاليا - آخرها حدث في عام 1948، أثناء الاحتلال العسكري قبل تأسيس الجمهورية الألمانية في العام التالي. في ذلك الوقت، خرج الملايين إلى الشوارع ضد إصلاح العملة، وتسبب إدخال المارك الألماني في ضغوط تضخمية لاذعة، في حين لم تكن الأجور قادرة على مواكبة وتيرة الإصلاح، فإنّ ألمانيا تتمتع بتقليد احتجاجي مفعم بالحيوية .
كانت الجرارات تتدحرج بصوت عالٍ عبر الجمهورية الفيدرالية القديمة خلال الستينات والسبعينات. في عام 1987، تظاهر 20 ألف مزارع ضد حكومة هلموت كول، وكذلك ضد السياسات الزراعية للمجموعة الاقتصادية الأوروبية آنذاك، تحت شعار «المزارعون ماتوا - الناس محتاجون». وقد حاصر سائقو الشاحنات مراراً وتكراراً، كما حدث على سبيل المثال في عام 1984 عندما حاصروا الحدود النمساوية الألمانية بالقرب من كوفشتاين، مما تسبب في ازدحام مروري هائل امتد على طول الطريق وصولاً إلى إيطاليا. ولمدة 20 عاماً، كافحت نقابة عمّال المعادن IG Metall من أجل 35 ساعة أسبوعياً، مع 70 ألف مضرب في عام 1984 وحده - ولم تصل إلى هدفها إلّا في أوائل التسعينات.
احتجاجات الشوارع تحزم المخاوف الاجتماعية والآمال والتوقعات. أحد الروابط في سلسلة الاحتجاجات الحالية في ألمانيا هو توجهها الواسع نحو «الوضع الراهن»،
فمعظم الذين خرجوا إلى الشوارع لا ينتمون إلى الأقليات المستبعدة أو المحرومة. بل إنّ هذا هو «الوسط الاجتماعي» لأولئك الذين لديهم ما يخسرونه، المزارعون الذين يخشون التخفيضات في الإعانات الوطنية وسياسات الاتحاد الأوروبي، والعمال الذين يشعرون بالضغط الهائل للاقتصاد «المرن» الذي من المفترض أن يكون كل شيء فيه متاح على الفور للجميع. ينشأ الضغط على المؤسسات الصغيرة ومتوسطة الحجم من خلال التنظيم الذي يهدف إلى تخفيض الأجور والتحول الرقمي. لكنّ هذا يدفع التجّار وطاقم التمريض والمعلمين إلى الجنون ويمنعهم من القيام «بعملهم الحقيقي».
ومع ذلك، فإن تآكل فترة طويلة من الهدوء الاجتماعي والسياسي بدأ بالفعل في ظل حكومة ميركل. منذ تولى ائتلاف «إشارات المرور» السلطة، وصل الوضع المرن في ألمانيا إلى نهايته. انتهت الاستراتيجية الناجحة منذ فترة طويلة للبقاء في السلطة من خلال تجنب كل الصراعات السياسية ما أمكن. انتهى زمن التوقعات المنخفضة، الذي كان فيه العمال سعداء بمجرد انتهاء الهجمات النيوليبرالية، كما انتهت الهيمنة الخطابية «للّيبرالية الاجتماعية» المنتشرة.
تمّ استهلاك أسس تيّار «الميركلية» من الداخل ومن الخارج. على الصعيد الخارجي، تم تقويضه بسبب الاضطرابات الجيوسياسية، وفي المقام الأول الحرب في أوكرانيا، من خلال وقف إمدادات الغاز الروسي، تلقّت ألمانيا ضربة موجعة، ناهيك عن الجدل المتزايد حول تزويد أوكرانيا بالأسلحة. على الصعيد الداخلي، تغلبت الأوهام الذاتية على السياسة الألمانية. إن «الوسط»، الذي يُعَدّ في ألمانيا موقعاً مطلوباً ومكاناً يُفترض أنه يمكن الاعتماد عليه للعقلانية السياسية، وتحقيق التوازن بين الرفاه والاقتصاد. فشل في أداء مهمّته.
لا يمكن لائتلاف «الوسط» الاعتماد على الدخل والثروة المرتفعة للمساهمة في تمويل التحول الاجتماعي والبيئي إلى الاقتصاد والمجتمع أو أيّ مشاريع اجتماعية أخرى. عنى هذا ظهور صراعات إضافية في المستقبل ولزوم الاتجاه نحو اليمين. وهناك العديد من الاتجاهات المتزامنة التي تضمن أن الحدّ من عدم المساواة، بل وحتى مجرد الحفاظ على الوضع الراهن، يتطلب زيادة في إعادة التوزيع والتنظيم والإنفاق الاجتماعي. بدونه، ستستمرّ الإيجارات في مناطق النمو في الارتفاع بسرعة، كما أن تحديد سعر لثاني أكسيد الكربون على السلع الاستهلاكية الأساسية من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية للمواطنين بشكل كبير. وإذا كانت ألمانيا راغبة في الحفاظ على درجة نشاطها الصناعي المرتفعة نسبياً في اقتصادها، فإن الأمر يتطلب أيضاً انتهاج سياسة صناعية أكثر طموحاً. ثم هناك الإنفاق الاجتماعي الذي يستلزمه التغير الديموغرافي، وتؤدي شيخوخة السكان إلى زيادة الطلب على خدمات الرعاية الصحية كثيفة العمالة، والتي لا يستطيع الكثير من الناس تحمل تكاليفها من القطاع الخاص. وتعاني رعاية الأطفال بالفعل من نقص الموظفين والتمويل بشكل صادم، وتتطلب الهجرة الاستثمار في التكامل والإسكان.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1161
آخر تعديل على الأربعاء, 14 شباط/فبراير 2024 11:25