لماذا إرادة أوروبا مقيّدة في علاقتها مع الصين؟
يانيس فاروفاكيس يانيس فاروفاكيس

لماذا إرادة أوروبا مقيّدة في علاقتها مع الصين؟

مع اختتام القمّة الـ24 بين الاتحاد الأوروبي والصين يوم الخميس 14 كانون الأول، من الطبيعي أن نرغب في النظر إلى ما وراء الإعلانات والخطب الرسمية لتحديد القوى الأعمق التي تشكل علاقة الاتحاد الأوروبي مع الصين وسياساته في التعامل مع الصين. لكن كي نفهم طبيعة هذه القوى، فمن الأهمية بمكان أن نعود إلى البداية، إلى آب 1971، عندما أنهت الولايات المتحدة نظام بريتون وودز المالي الدولي الذي صممته بنفسها. السبب الذي يجعلنا بحاجة إلى العودة إلى هذا الوقت البعيد هو أن نموذج أعمال الاتحاد الأوروبي تم تشكيله استجابة لهذا التحول المضطرب من نظام سعر الصرف الثابت إلى عصر الرأسمالية المالية المهيمنة. وعلى نحو مماثل، لا بد من دراسة صعود الصين الهائل، وارتباطاتها المتطورة بأوروبا، تحت الضوء نفسه.

ترجمة: أوديت الحسين

في ظل نظام بريتون وودز، عملت أسعار الصرف الثابتة بين العملات الأوروبية والدولار «أي دولرة أوروبا» بشكل جيد عندما حافظت الولايات المتحدة على فائض تجاري مع الدول الأوروبية واليابان - بمعنى أن الدولارات التي تم ضخها إلى أوروبا سوف تهاجر عائدة إلى الأراضي الأمريكية – بفضل صافي الصادرات الأمريكية إلى أوروبا. ومع ذلك، بمجرد أن أصبحت الولايات المتحدة دولة تعاني من العجز، في وقت ما في أواخر الستينيات، لم تعد اتفاقية بريتون وودز مستدامة، وسرعان ما تم استبدالها بما أسميه «الصفقة المظلمة» التي عرضتها واشنطن خلسة على أوروبا واليابان.
كانت «الصفقة المظلمة» بسيطة إلى حد ما، «سوف نُبقي الطلب على منتجاتكم مرتفعاً، باستخدام عجزنا التجاري. وفي المقابل، سوف تستثمرون أرباحكم طوعاً في قطاعات التمويل والتأمين والعقارات الخاصة بنا». وهكذا أصبح الدولار الأمريكي بمثابة سندات دين مقدّسة. وبوسع الولايات المتحدة أن تستخدمه لشراء كل ما يمكن أن تنتجه المصانع في أوروبا واليابان. على نحو أو آخر، ليس على الولايات المتحدة إلّا أن تدفع بالدولارات التي لم يكن أمام الرأسماليين الأوروبيين واليابانيين أي بديل سوى الاستثمار فيها وفي حريق الولايات المتحدة. لماذا أطلق على هذه الصفقة اسم «المظلمة»؟ لأنّه، إلى جانب الثروات الهائلة التي استفاد منها الرأسماليون الأمريكيون والأوروبيون، فقد أدى ذلك إلى قمعٍ دائم للأجور في البلدان المصدّرة الصافية، مثل ألمانيا، وركودٍ بطيء في بقيّة أوروبا، وانحدارٍ صناعيٍ هائلٍ في قلب الولايات المتحدة.
أدى صعود الصين الهائل في التسعينيات إلى وضع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في هذه العلاقة الغريبة. استفاد الاقتصاد الصيني من صفقة واشنطن المظلمة التي تم توسيعها الآن لتصدير خطوط مصانع كاملة من الولايات المتحدة إلى الصين، والتي سيتم بعد ذلك تصدير إنتاجها إلى الولايات المتحدة، حيث يدفع المواطنون الأمريكيون ثمنها بالدولار الذي يستثمره المستفيدون الصينيون بعد ذلك في وول ستريت، في أذون الخزانة الأمريكية كمثال. ماذا ستفعل وول ستريت بهذه المدّخرات؟ سوف يستثمرون الكثير من الأرباح الأوروبية واليابانية والصينية في معدات رأسمالية جديدة حول العالم. باختصار، قامت الولايات المتحدة بإعادة تدوير أموال الآخرين واحتفظت لنفسها بجزء كبير من الأرباح والريع الناتج عنها.
انهارت آلية إعادة التدوير العالمية التي تتمحور حول الولايات المتحدة في عام 2008 مرة واحدة وإلى الأبد. ما حدث هو أنه على خلفيّة مليارات الدولارات من الأرباح الأوروبية والآسيوية التي تتدفّق إلى وول ستريت على أساس يومي، قام الممولون في الولايات المتحدة وبريطانيا ببناء تسونامي من الرهانات غير المستدامة «المشتقات المهيكلة» التي انهارت. اشتعلت النيران، أولاً عندما انهار بنك ليمان براذرز، ثم في تأثير الدومينو الشرير الذي أدى إلى انهيار النظام المصرفي في شمال الأطلسي والنظام المصرفي الأوروبي برمته.

طباعة النقود.. والصين

في تلك المرحلة، مارس الغرب التقشّف الشامل للأغلبية وقام بطباعة أموال ضخمة نيابة عن التمويل وعملائه من الشركات الكبرى. وكانت النتيجة انتعاشاً رائعاً للأسواق المالية، ولكنّ انهيار الاستثمارات الرأسمالية الإنتاجية (حيث أدركت الشركات أن الأغلبية غير قادرة على شراء سلع جديدة باهظة الثمن)، وكساد الطبقة العاملة في الغرب، ومستويات اللامساواة المدمرة للروح، وصعود الطبقة العاملة في الغرب، واليمين المتطرف العنصري في كل من أوروبا والولايات المتحدة.
هناك شيئان أنقذا الرأسمالية الغربية، طباعة النقود في البنوك المركزية الغربية التي سبق ذكرها.. والصين. ومباشرة بعد انهيار ليمان براذرز، بادرت الحكومة الصينية بحكمة إلى تعزيز الاستثمار من أجل استبدال الخسارة المتوقعة في الطلب الأجنبي بالاستثمار المحلي. وهكذا تم تحصين الصين من فيروس الأزمة المالية الغربية. وفي هذه العملية لعبت فورة الاستثمار في الصين دوراً رئيسياً في تحقيق الاستقرار في كل من الولايات المتحدة ومنطقة اليورو.
هذه هي الخلفية التاريخية التي ينبغي لنا أن نفهم على أساسها العلاقة الحالية بين الصين والاتحاد الأوروبي، إن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى الصين أكثر كثيراً من حاجة الصين إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن الولايات المتحدة تقيده في علاقته بالصين. وكي نرَى هذا، علينا أن نلاحظ أنه قبل أن تضرب أزمة عام 2008 أوروبا، والتي انبثقت عن وول-ستريت، كانت الأسس التي قام عليها الاتحاد الأوروبي معيبة، وذلك على النقيض من الولايات المتحدة، التي لديها خزانة فيدرالية، ونظام مصرفي موحد بالكامل، وبرنامج استثمار فيدرالي إجمالي، بينما لا تتمتع أوروبا بأيّ من ذلك. ونتيجة لذلك، بعد عام 2008، عندما كانت اليونان بمثابة طائر الكناري في منجم الفحم، بينما كان السكان الأوروبيون منغمسين في إجراءات تقشف قاسية، سُمح لمعظم الحكومات الأوروبية بالغرق في ديون غير قابلة للسداد، مما أدى إلى انخفاض مستويات الاستثمار عن المستويات المنخفضة بالفعل في أوروبا بالمقارنة مع الولايات المتحدة، وأقل بكثير من تلك الموجودة في الصين.
وبعد خمسة عشر عاماً، يمكننا أن نرى النتائج. ففي عام 2008، كان دخل الأوروبيين في المجمل أعلى بنسبة 10% من دخل مواطني الولايات المتحدة. وبحلول عام 2022، كان المواطنون الأمريكيون يكسبون 26% أكثر من الأوروبيين. وقد أصبح الأوروبيون أكثر فقراً، ليس على المستوى الجماعي فحسب، بل وعلى المستوى الخاص أيضاً. والأسوأ من ذلك هو أن أوروبا، على مدى خمسة عشر عاماً، منذ عام 2009، فشلت في الاستثمار، على عكس الصين أو الولايات المتحدة، في تكنولوجيات المستقبل، البطاريات، والطاقة الشمسية، والرقائق الدقيقة، والذكاء الاصطناعي. والأمر الأكثر أهمية أنه في حين استثمرت الولايات المتحدة والصين بكثافة في رأس المال التكنولوجي الذي يمنح أصحابه سطوة عظمى على العلاقة الناشئة بين شركات التكنولوجيا الكبرى والمعاملات المالية الرقمية، فإنّ أوروبا لم تفعل ذلك.
ما ورد أعلاه يفسّر لماذا تعتبر أوروبا، على الرغم من ثرواتها، كتلة اقتصادية متلاشية عالقة في الحرب الباردة الجديدة المتصاعدة التي أطلقتها واشنطن ضد الصين من أجل وقف الخطر الذي يهدد نظام المدفوعات العالمي القائم على الدولار. ومن خلال إضافة الانقسام بين الشرق والغرب إلى الانقسام الحالي بين الشمال والجنوب في أوروبا، ومن خلال تعزيز تكاليف الطاقة بشكل مفرط، فقد أدت الأزمة في أوكرانيا إلى تقليص استقلال أوروبا في اختيار سياساتها الخاصة تجاه الصين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1153
آخر تعديل على السبت, 06 كانون2/يناير 2024 21:38