هل يتجه الغرب نحو التخلص من جيوشه؟
أوديت الحسين أوديت الحسين

هل يتجه الغرب نحو التخلص من جيوشه؟

بمتابعة سريعة للأخبار الغربية سنرى تهلهلاً متزايداً للجيوش النظاميّة، وليس ذلك في معرض الحديث عن الذخائر والعتاد ونقصها نتيجة دعم أوكرانيا فقط، بل يصل الأمر أحياناً إلى عدم قدرة هذه الدول على توفير ألبسة داخلية للمقاتلين كما هي الحال في الجيوش النرويجية والسويدية والدنماركية، واجتياح موضة «الاتجاه الجنساني» المتزايدة لهذه القوات كما في حالة الجيش البريطاني الذي انفجرت في قواته الجوية مؤخراً فضيحة ثبت فيها حدوث تمييز ضدّ تنسيب الرجال البيض الأسوياء جنسياً لصالح المتنوعين جنسياً. وحتّى الجيش الأمريكي ذو الموازنة الهائلة، بتنا نسمع الكثير من قادته عن عدم أهليته لمعارك حربية كبيرة، وعن نقص التجهيز وموضة الجنسانية...إلخ. هذا كله يدفع إلى التفكير بماهية الأسباب وراء هذه التحولات، خاصة مع الميل المستمر للغرب للتصعيد في العالم ضدّ قوى مجهزة عسكرياً بشكل كبير مثل روسيا والصين.

سيفيدنا أن ننطلق من فهم أنّ الجيوش النظامية الغربية هي في نهاية المطاف مؤسسات عامّة تنتمي إلى جهاز الدولة، ولهذا فمن الطبيعي في ظلّ الاتجاه النيوليبرالي الذي حكم العقليّة الرأسمالية الغربيّة منذ ثمانينيات القرن الماضي أن يتمّ وضعه على لائحة «التحوّل للخصخصة». وسواء كانت هذه الخصخصة تستهدف المؤسسات المرتبطة بالجيش، مثل مؤسسات توريد السلاح والملابس والطعام»، أو تستهدف مستلزمات وجوده المباشر «الطواقم والتشكيلات والثكنات»، فمن الواضح أنّ جميع الدول الغربية، ولو كان ذلك بتطور متفاوت، تتجه نحو خصخصة الجيوش. ربّما الشكل الأبرز لهذه الخصخصة هو الشركات العسكرية والأمنية الخاصة التي تقدّم المقاتلين... ولكنّ تحويل القطاع العسكري إلى «قطاع خاص» هو أمر أكبر وأوسع في تفاصيله.

مسألة خصخصة الجيوش النظامية والقطاع العسكري الغربي لا تخضع فقط لاعتبارات «الحسابات الاقتصادية الرأسمالية»، ففي ميزان الحفاظ على الربح وإدامته، يجب على النخب الغربية أن تمتلك بشكل دائم مؤسسات قمع مباشرة «جيش وقوات أمن» جاهزة للتدخل لصالح النخب الحاكمة عندما لا تتمكن أدوات القمع والهيمنة غير المباشرة «إعلام وجامعات وانتخابات...إلخ» من ممارسة دورها بشكل فاعل. يضعنا هذا أمام عدد من الاعتبارات التي يجب أن تؤخذ جميعها في الاعتبار عند تحليل البيانات.

لنبدأ بشكل نظري من أنّ المؤسسة العسكرية المسلحة في أيّ دولة هي مؤسسة قابلة للقولبة لتتحرّك بشكل يناقض مصالح الشعب أو يقف معه. يمكننا فهم هذه الديناميكية من تجارب الدول الأقلّ تطوراً من الناحية الرأسمالية «الدول الطرفيّة»، حيث لا يزال تطويع القوات المسلحة من قبل المؤسسات الحاكمة أضعف، فالانقلابات والتمردات العسكرية التي يصنعها أو يساهم فيها الجيش في هذه الدول قد تأخذ مساراً يعمل لصالح النخب الحاكمة «المثال العالمي الأبرز هو تشيلي عندما انقلب بينوتشيه على سلفادور الليندي»، ولكنّها قد تأخذ مساراً يعمل لصالح الشعوب «المثال العالمي الأبرز هو فنزويلا وهوغو تشافيز وإحباط الانقلابات المضادة».

إنّ قدرة النخب الغربية على إبقاء الحال في دولها على ما كانت عليه خلال الخمسين عاماً الماضية أصبحت واهنة، ولهذا نشهد ارتفاعاً هائلاً ومستمراً في الاعتماد على القمع المباشر من خلال قوات الشرطة والأمن المجهزة بمعدات وتدريبات عسكرية. ورغم أنّ هذا المقال غير قادر على مناقشة أشكال القوات المسلحة واعتماد النخب عليها بشكل تفصيلي، لكنّ الغرب بالتأكيد – وهو الذي اعتمد لسنوات طويلة على وجود القوات العسكرية الوطنية «جيش وقوات أمن» كوسيلة قمع داخلية وخارجيّة، بدأ اليوم يتشكك ويخشى من قدرته على الاعتماد عليها أكثر.

هذا الخوف من قبل النخب منطقي ومبرر، فأفراد القوات المسلحة – جنوداً وضباطاً – هم في نهاية المطاف جزء من المجتمع الغربي الذي يشهد أزمات داخلية اقتصادية وسياسية تجعله غير قادر على الاستمرار دون تغيير. لنأخذ مثالاً من القوات المسلحة البريطانية، فكما كتب الإعلام البريطاني بشكل صريح، «وصل الأمر إلى النقطة التي يتضور فيها الجيش البريطاني وعائلاته من الجوع ببساطة. بدأ العسكريون في سلاح الجو الملكي في قاعدة كونينغسبي الجوية بالتوجّه إلى بنوك الطعام بسبب ارتفاع التضخم في البلاد وأزمة غلاء المعيشة». كتبت وسائل الإعلام الأمريكية بدورها عن مشكلة عدم كفاية التأمين الصحي للعسكريين الذين أنهوا الخدمة وعائلاتهم، ما يجعلهم غير قادرين حتّى على التداوي والحصول على العلاج اللازم، سواء الجسدي أو النفسي.

من سيحمي النخب؟

مهما كان ذلك غير قابل للتصديق بالنسبة للذين اعتادوا على كون الجيوش الغربية «محترفة» ولا تتدخل في السياسة، بشكل مباشر على الأقل، ففكرة أن تتمكّن مجموعة من الأشخاص من ذوي التنظيم العالي من ضمّ معاناتهم سويّة، وهم قادرون على العمل بموجب أسلوب رقابة حكومي وليس خاصاً محجوب المعلومات، وأن يتمكّن العامة من تدقيق عملهم وتشغيلهم بشكل أو بآخر عبر المؤسسات العامة «المهلهلة أحياناً ولكن الموجودة»، هو مصدر تهديد للنخب يجب التخلّص منه.

إنّ الاتجاه الغربي في التعامل مع جيوشه النظامية ليس أمراً للنقاش، فالبيانات التي تشير إليه أكبر من أن تحصى. لنعد إلى الحديث عن الجيش البريطاني كمثال بارز في دولة من أعمدة الرأسمالية الحالية والاستعمار القديم. يبلغ عدد أفراد الجيش البريطاني اليوم 76 ألفاً فقط، أي نصف عددهم في عام 1990، والأقل منذ نابليون. ووفقاً لوزارة الدفاع البريطانية، تعاني 32 كتيبة مشاة من أصل 33 في القوات البرية للمملكة المتحدة من «نقص حاد» في الجنود الجاهزين للقتال. تحتاج قوات المشاة البريطانية إلى أكثر من 14 ألف جندي، والوحدات القتالية التابعة للجيش البريطاني تمتلك بالكاد نصف الأفراد المطلوبين للانتشار العملياتي، كما أصاب النقص في الأفراد حتى وحدات النخبة. معظم أسطول مركبات الجيش البريطانية المدرعة، بما في ذلك الدبابات، تمّ بناؤها قبل ما يقرب من 30 إلى 60 عاماً كاملة، وليس هناك خطط لاستبدالها في السنوات المقبلة. أصبحت البحرية البريطانية الشهيرة اليوم في حالة مثيرة للشفقة، حيث وصفها الأدميرال البريطاني آلان ويست، «ضعيفة بشكل يدعو إلى الشفقة». ربّما التعليق الذي قاله ضابط المخابرات العسكرية البريطاني العقيد فيليب أنجرا يصف شعور الجيش البريطاني ووضعه، «يدعو إلى اليأس».

من سيحمي النخب إذاً إن لم يكن الجيش؟ ومن سيقف في وجه روسيا والصين في حالة إثارة نزاع معهما؟ الإجابة مركبة، هنالك الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، حيث تكون للمرتزقة والقتلة الغلبة عدّة وعتاداً، وهنالك دول بأكملها يمكن استخدامها كوسيط تتم الحرب عبره وعبر قواه البشرية والمادية، أوكرانياً مثالاً...

إذا ما تابعنا العقيدة العسكرية الغربية، البريطانية والأمريكية بشكل خاص، منذ حرب أفغانستان والعراق، سنرى بأنّ القوات العسكرية والأمنية الخاصة بات لها وجود أكبر على المسرح العالمي، مع أسماء شهيرة مثل بلاك ووتر وبلاك شيلد. إنّ بلاك ووتر، والتي يقع مقرّها الرئيسي اليوم في الإمارات (وبات اسمها الجديد Academi)، قدمت عرضين في السنوات الخمسة عشرة الماضية كافيين للبوح بقدراتها العسكرية. الأول كان للاتحاد الأوروبي حيث تعهدوا بحماية البحر المتوسط من «تهديدات دولة» والتي كان يُقصد بها تركيا، وكذلك منع وصول أيّ مهاجرين إلى الأراضي الأوروبية. والعرض الآخر لدول الخليج العربي بحمايتها من «التهديد الإيراني» ومن أي تداعيات «للربيع العربي».

ما تشير إليه البيانات والتقارير بسيط، النخب الغربية تريد سفاحين غير محكومين بأيّ قوانين ليحموهم، ولينشروا الموت حيث يحلون، ويبدو أنّ الجيوش النظامية – والشرطة العادية أيضاً – غير قادرة على أداء هذه المهمة بدون خوف.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1130
آخر تعديل على الإثنين, 10 تموز/يوليو 2023 22:29