«حرب المخدرات» الرأسمالية...  أداة توسع وهيمنة اجتماعية
دون بالي دون بالي

«حرب المخدرات» الرأسمالية... أداة توسع وهيمنة اجتماعية

إنّ التدقيق في ما يسمى «الحرب على المخدرات» هو شرط ضروري لفهم الدوافع الحقيقة وراء تلك الحرب، وعلى وجه التحديد توسّع النظام الرأسمالي إلى مناطق جديدة، أو إلى مناطق وفضاءات اجتماعيّة لم يكن قادر على الوصول إليها سابقاً. فبالإضافة إلى كون هذه الحرب تعزز المصارف الأمريكية وتدعم الحملات السياسيّة وتغذي تجارة السلاح المربحة، يمكن لفرض سياسات «الحرب على المخدرات» أن تفيد شركات النفط والغاز والتعدين العابرة للحدود، والشركات التي تعمل في قطاعات مرتبطة بها.

تعريب وإعداد: عروة درويش

هنالك قطّاعات أخرى تستفيد من العنف الذي تولده تلك الحرب وهي: الصناعات التحويليّة، والنقل، وجزء من قطّاع الإتجار والبيع بالتجزئة، وخصوصاً تلك الشركات الكبيرة مثل «والمارت»، إضافة إلى مجال أعمال العقارات في المكسيك والولايات المتحدة. إنّ «الحرب على المخدرات» هي حلّ طويل الأمد لمشاكل الرأسماليّة، وهي تجمع بين الإرهاب وصنع السياسات في مزيج نيوليبرالي متمرّس.
يجب علينا أن نعيد التفكير بما يسمي «الحرب على المخدرات»: فهي لا تتعلّق بالسياسات المتبعة لمنع المخدرات، بل باستخدام الإرهاب في هذه الحرب ضدّ السكان في المدن والمناطق الريفيّة، والاستفادة من الرعب والذعر الذين تنشرهما من أجل تنفيذ سياسات تسهّل الاستثمار الأجنبي والتنمية الاقتصادية. إنّها «حرب المخدرات» الرأسمالية.
لطالما شكّل النهب والربح والسلب دعائم الحروب منذ عصور ما قبل الاستعمار، ولكن لا يوجد سوى القليل من التركيز على دور التمويل والاقتصاد في الحروب. يقول كلاً من ماتس بيردال، ودافيد مالون، في بحث لهما عن كيفيّة توليد الصراعات والحفاظ عليها، أنّه قد تمّ إيلاء المصالح الاقتصاديّة الدافعة للحرب القليل من الاهتمام المنهجي، ولطالما اقتصر التحليل الاقتصادي في حالة «الحرب على المخدرات» على المضاربة بشأن أرباح الإتجار بالمخدرات، وعلى التقارير عن غسيل الأموال في المصارف الكبرى. ولكن علينا، كما قال مالون وبيردال، كي نفهم الحروب اليوم بشكل جيد أن نفهم بأنّ: «دور القطّاع الخاص العالمي، وتحديداً الصناعات الاستخراجية (البترول والتعدين)، هو دور رئيسي».
إنّ أحد العناصر الأساسية لفهم أثر «حروب المخدرات» في تعزيز الجماعات المسلحة غير النظامية، هو فهم أنّ هذه الجماعات سوف تبدأ عملها بتوفير الحماية لتجّار المخدرات، ولكنّها ستعمل فيما بعد لصالح من يدفع لها. فهم يعملون في وقت محدد لمصلحة تجّار المخدرات، ثمّ يضطلعون فيما بعد بمهمات القمع غير القانونية لصالح «النخب». إنّ بعضاً من هؤلاء «النخب» هم من السياسيين الذين ينازعون بعضهم البعض على السلطة السياسيّة، أو قد يكونون من ملّاك الأراضي الراغبين بطرد الناس الذين يعملون أو يسكنون في الأرض. ولكن وكما هو موثق، فإنّ هنالك عوامل هيكليّة تلعب دورها، حيث تٌمنح الجماعات المسلحة غير النظامية حصانة تامّة للإفلات من العقاب عند قيامها بأعمال الابتزاز وإرهاب السكان، وذلك عندما تكون تلك الأعمال لخدمة الرأسماليّة العابرة للحدود، أو لخدمة السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
يروج الإعلام السائد والدول القوميّة لفكرة الانقسام بين قوى الدولة وجماعات الجريمة، أيّ أنّ الفساد هو نتاج بعض التفاح الفاسد في المجموعة. إن عدم الانجرار وراء هذه الثنائية يعني بأننا نتعلّم من تجارب الناس الذين تأثروا بشكل مباشر من نشاط المجموعات المسلحة المحصّنة ضد العقاب. وسبب هذه الحصانة هو ليس ضعف أو قصور الدولة، بل هي ممنوحة عمداً لسلسلة المجموعات تلك والتي ترتكب الجرائم وأفعال الإرهاب بحقّ المواطنين والمهاجرين والفقراء. إنّ منح الحصانة للجهات المسلحة الفاعلة التي تصطفّ سياسياً إلى جانب الرأسمالية هو جزء من أسباب إطلاق هذه الحرب.
 وكما قال الناشط المكسيكي، خافيير سيسيليا، أثناء مقابلة معه على خلفية اغتيال ابنه عام 2014: «هنالك حرب بين الدولة والدول الموازية. وحتّى يجيء الوقت الذي نفهم فيه بأنّ الجريمة المنظمة ليست مكونة من المجرمين، بل من خلايا دولة موازية مزودة بقوة نارية وبقدرة على الإخضاع وببعض القواعد الاجتماعية، وحتّى يجيء الوقت الذي نفهم فيه بأنّ كلّ ما يحصل هو صراع للسيطرة على الإقليم وعلى حياة المواطنين، فسوف لن نتمكن من فهم المشكلة». ويشرح فرانسيسكو تشافيرا، وهو الناشط المكسيكي والمسؤول التعليمي في منطقة رينوسا، كيف تتفاعل حرب المخدرات مع دول الإقليم: «إنّ رئيس العصابة الحقيقي هو رئيس الدولة ومعاونوه الرسميون ومحافظو المدن. لقد وصلوا جميعاً إلى مناصبهم من خلال تمويلهم من مصادر غير مشروعة. إنّهم يحمون بعضهم البعض، وهم جميعهم متماثلون».
توفّر هذه العناصر الجذرية للقمع والإرهاب الأساس لاستمرار وتكثيف التوسّع الرأسمالي في المكسيك وأمريكا الوسطى واللاتينيّة. وتلجأ الحكومات ورأس المال العابر للحدود إلى القمع من خلال الإرهاب، في محاولة لنزع ملكية الأراضي والأقاليم من الجماعات الموجودة فيها في جميع أنحاء الأمريكيتين والعالم. وكما لاحظ الباحث الاجتماعي راوول زيبيكي: «سيكون من الصعب على الرأسمالية أن تنجو إن فشلت في توطيد أشكال جديدة من السيطرة والإخضاع». ووفقاً لبروفسور الأنثروبولوجيا دافيد هارفي: «فإنّ توسع الرأسماليّة يعتمد على التراكم من خلال نزع الملكية، والذي يمكن أن يشمل القيام بالتهجير القسري، وبخصخصة الأراضي العامّة أو التي تحوزها المجتمعات المحلية، وبقمع أشكال الإنتاج والاستهلاك التي يعتمدها السكان المحليين، وباستخدام الائتمان والدين من أجل تيسير التراكم عن طريق التجريد من الممتلكات من بين أشياء أخرى». هذا ما يحدث في الكثير من الدول اليوم، وتسهم الحرب على المخدرات في تسريع الكثير من هذه العمليات.
العسكرة والعسكرة الموازية والعنف
يمثّل نشر الجيش لمحاربة عدو داخلي - تجّار المخدرات في هذه الحالة- تحولاً حاسماً في السماح للدولة «الديمقراطية» بتبرير مهاجمة الجنود للمدنيين على التراب الوطني، عبر الادعاء بأنّ هؤلاء المدنيين هم مجرمون.
يعلمنا التاريخ بأنّه يمكن استخدام ما يسمّى بـ«التدريب والإنفاق على مكافحة المخدرات» لتحقيق غايات متنوعة. يقول ستان غوف، مدرّب القوّات الخاصّة الأمريكي السابق، عن تدريب «قوّات مكافحة المخدرات من أجل كولومبيا»، بشكل صريح غير عادي: «لقد تمّ إخباركم، وتمّ إخبار عامّة الأمريكيين، بأنّ هذا التدريب كان من أجل مكافحة المخدرات. لقد كان التدريب الذي قدمته ينفع لكلّ شيء إلّا لمكافحة المخدرات. وضعت مناهج التدريب على غرار مناهج مكافحة التمرّد في النموذج الفيتنامي. لقد قيل لنا صراحةً بأنّ هذا ما نفعله، وقيل لنا أيضاً بأنّ نشير للأمر على أنّه تدريب لمكافحة المخدرات عند الإجابة على التساؤلات. لقد كان واضحاً بأنّ أمر المخدرات هو مجرّد غطاء رسمي». حتّى أنّ عضو «مجلس الشيوخ الجمهوري» جون ماكين، قد قال بنفسه عام 2002: «لقد استغنت السياسة الأمريكيّة عن كذبة أنّ الحكومة الكولومبيّة تحارب على جبهتين منفصلتين: واحدة ضدّ تجارة المخدرات، والأخرى ضدّ الإرهابيين المحليين. لطالما أصرّت الحكومة «الديمقراطية» لكولومبيا على أنّ الرابط الجوهري للإرهابيين المنخرطين في تجارة المخدرات هو ما يهدد المجتمع الكولومبي. تعترف السياسة الأمريكيّة الآن بهذه الحقيقة، وتهجر التفريق الخيالي بين مكافحة المخدرات ومكافحة المتمردين».
يتم نقل العنف المرتبط بالمخدرات تبعاً للمكان الذي تضخ فيه الولايات المتحدة أموال «مكافحة المخدرات»، فهذا العنف يرتبط بشكل مباشر بالضغوط الخارجية وبتأمين الموارد لقوات الأمن المحلية. فالحرب على المخدرات تنتقل جغرافياً بين دول مثل كولومبيا إلى المكسيك، ومن هناك إلى أمريكا الوسطى والكاريبي...الخ. يعزز هذا الانتقال الجغرافي لـ«الحرب على المخدرات» العسكرة بشكل رسمي وغير رسمي في الدولة المعنية، وبهذا يعمّق قدرة الشركات العابرة للحدود على استغلال العمالة والموارد الطبيعية.
 ثمة روابط محددة بين الحروب - بما في ذلك الإبادة الجماعية- في أمريكا الوسطى خلال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، وبين ما يجري اليوم. فعلى سبيل المثال: في هجوم حديث قامت به مجموعة «زيتاس» الإرهابية في المكسيك، تم استخدام قنابل تعود إلى الثمانينيات، وهي ذات القنابل التي كانت تبيعها الولايات المتحدة للجيش السلفادوري. مثال آخر: الرابط الواضح بين حرب الستّة وثلاثين عاماً في غواتيمالا واليوم هم «الكايبيل»، وهم نخبة القوات الخاصة المسؤولون عن مذابح مروعة أثناء تلك الحرب، والذين يشغلون اليوم مناصب رفيعة كقوات «نخبة» حكومية وكأعضاء بارزين في مجموعات إجرامية. ومن أشهرهم هوغو غوميز فاسكيز، أحد أعضاء «الكايبيل» السابقين المتهم بإدارة أعنف عمليات تهريب المخدرات في غواتيمالا. لقد اتُهم بالإشراف على قتل 27 مزارع عام 2011 بسبب نزاعهم على الأرض مع مالكها. تستمرّ أعمال العنف هذه في كامل أمريكا الوسطى، وتقوم بها مجموعات بالزي الرسمي أو بغيره، تحت ستار مكافحة المخدرات. ففي كولومبيا يتحوّل هذا النموذج من الأرض إلى السماء، حيث لا تزال القوى الجويّة تمطر الفلاحين المتمردين بالقنابل من الأعلى.
 تُظهر لنا كولومبيا بشكل جلي استخدام القوات المحلية المدربة أمريكياً، لقمع المتمردين اليساريين والحركات الاجتماعية. فقد شهدت كولومبيا أطول حركات التمرد وأكثرها تعدداً، وهو ما يميزها عن بقيّة الدول. لقد شكّلت «الحرب على المخدرات» الأمريكية في جزء كبير منها قوات قمع المتمردين اليساريين، أو كما يدعوهم الخطاب الأمريكي الرسمي: «الإرهاب».
لقد تمّ في عام 1997 إضافة اسم «قوات كولومبيا الثورية المسلحة، FARC» إلى لائحة المنظمات الإرهابية الخارجية لوزارة الخارجية الأمريكية، وتم وصمها بعد أحداث 11 أيلول بتعاملها بالمخدرات، حيث أعلن الأمريكيون بأنّ مليشيات «FARC» هي المسؤولة عن أهم ممر للكوكائين الذي ينقل نحو الشمال. لكنّ هذه الادعاءات ليس لها في الواقع أساس من الصحة. لقد قدّرت الحكومة الكولومبية في عام 2001 بأنّ القوات شبه العسكرية تسيطر على 40% من تجارة المخدرات، بينما تسيطر القوات الثورية على 2.5% منها فقط.  
لقد اعترف قائد قوات الدفاع الكولومبية، كارلوس كاستانيو، في مقابلة تلفزيونيّة أوائل التسعينيات، بأنّ 70% من المنظمات شبه العسكرية تتلقى تمويلها من تجارة المخدرات. وقد دخلت الحكومة والجيش عام 2003 في مفاوضات مع المنظمات شبه العسكرية من أجل تفكيكها وإعادة دمج أعضائها في المجتمع، وبحلول عام 2006 انبثقت العصابات الإجرامية «بانداس» أو «باكريم». ويتم الترويج لهذه المجموعات بأنها غير مأدلجة - لا تنتمي للجناح اليساري ولا لليميني- لكنّها تتكون بغالبيتها من القوات شبه العسكرية التي لم يتم تسريحها.
هل «حرب المخدرات» هي حربٌ على المخدرات فعلاً؟
لا يمكن الادعاء بأنّ هدف الحرب على المخدرات هو وقف تدفقها. نحن نعلم بشكل موثّق بأنّ كميّة المخدرات التي تدخل إلى الولايات المتحدة لم تنخفض بعد القيام بأعمال وإجراءات الحرب على المخدرات. فمثل هذه الإجراءات تستهدف تحسين ظروف الاستثمار الأجنبي المباشر وتشجيع توسّع الرأسماليّة، وليست مهتمّة بوقف تدفق المخدرات.
إنّ برامج مكافحة المخدرات التي دعمتها الولايات المتحدة، سواء في كولومبيا أو المكسيك أو منطقة الكاريبي أو غيرها، تزيد من تدفق المخدرات، وكذلك من انتشار العنف. لقد كتب، ديل سكوت، عام 2003: «يزدهر الإتجار بالمخدرات في أوقات الصراع. ومن الواضح أنّ التدخلات الأمريكية العسكرية في مناطق المخدرات قد صاحبها، وسيستمر الأمر كذلك، زيادة كبيرة في تدفق المخدرات إلى الولايات المتحدة. إنّ هذا الازدهار في تجارة المخدرات سببه الجهود الأمريكية وليس رغماً عنها». مثال: بعد أن انتقلت الولايات المتحدة من فرض العقوبات على كولومبيا إلى إطلاق «خطّة كولومبيا Plan Colombia» التي دربت فيها القوات الكولومبية وزودتها بالدعم العسكري من أجل منع الكوكائين - والذي كان يهدف في الحقيقة إلى حماية الاستثمارات الأجنبية- منيت هذه الخطّة بالفشل الذريع من حيث أهدافها المعلنة في مكافحة تجارة المخدرات. لكنّ صانعي السياسة الأمريكيين قدروا نجاح هذه الخطّة من نواحي أخرى: لقد شهدت كولومبيا في الفترة التي تلت البدء بالخطّة أسرع نمو للاستثمارات الخارجية في كامل أرجاء أمريكا اللاتينيّة. وكذلك توقيع اتفاقيات التجارة الحرّة مع الولايات المتحدة ومع كندا.
كما أنّ الحرب على المخدرات داخل الولايات المتحدة، توفّر آلية للرقابة الاجتماعية، باستخدام التجريم والحبس الجماعي الذي يستهدف الفقراء والعمّال والمهاجرين و«المجتمعات الملونة». ويعتمد نموذج «حرب المخدرات» خارج الولايات المتحدة على استخدام الإرهاب من أجل فرض الهيمنة الاجتماعية.
ولهذا لا تقف إجراءات الحرب على المخدرات عند الدول الجنوبية، بل تمتد إلى الولايات المتحدة. فأكثر فترتين شهدتا حالات جرائم قتل مسجلة في الولايات المتحدة في القرن العشرين كانت بين عامي 1915 و1930، أثناء حظر المشروبات الكحولية، وبعد إعلان نيكسون الحرب على المخدرات.
يجب أن يُفهم إنشاء قوات شرطة مكافحة المخدرات ووحدات الجيش والإنفاق على حرب المخدرات ضمن سياق الرأسماليّة العالميّة والحرب العالمية، وفي هذا السياق يعدّ الاستحواذ على الأراضي والموارد، بما في ذلك السيطرة المتزايدة على العوالم الاجتماعية وقوى العمل، حافزاً حاسماً. يوفّر خطاب «حرب المخدرات»، الذي تروّج له الدول، وتنشره وسائل الإعلام السائدة، تعمية فعّالة لإثارة الذعر الأخلاقي لدى العامّة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى فرز ومبالغة في فصل المجموعات، مثل التفريق بين المنخرطين وغير المنخرطين بنشاطات غير مشروعة، وهو ما يؤثر على العلاقات وصولاً إلى مستوى الأحياء والجماعات المحلية ومنظمات الفلاحين.
النيوليبرالية دوماً
لقد قالت لي، راكيل غوتيريز، مقاتلة «حرب العصابات» السابقة والبروفسورة الحاليّة في جامعة بويبلا، أثناء لقائي معها عام 2012: «هل قرأت كتاب عقيدة الصدمة لنعومي كلاين؟»، وعندما أومأت لها بالإيجاب قالت: «إنّ ما حدث هو أنّ الصدمات لم تنفع في المكسيك». ليس الأمر أنّه لم يكن هنالك ما يكفي من الصدمات، والتي قالت كلاين بأنّها تتراوح بين الكوارث الطبيعية والأزمات الاقتصادية التي يتم استغلالها من أجل تعميق النظام النيوليبرالي، فكما ذكرت في  كتابها ذلك: «إنّ أكثر حالة دراماتيكية حدثت حتّى عام 1994، أي بعد عام من انقلاب يلتسين، هي عندما عانى الاقتصاد المكسيكي من انكماش كبير يعرف باسم «أزمة التيكيلا»: حيث طالبت خطّة الإنقاذ الأمريكيّة بعمليات خصخصة سريعة، وأعلنت مجلّة «فوربس» بأنّ هذه العملية أدّت إلى إيجاد 23 ملياردير جديد... كما أنّها صدّعت المكسيك وجعلتها مفتوحة لعمليات امتلاك أجنبيّة غير مسبوقة: ففي عام 1990، كان واحد فقط من المصارف المكسيكيّة مملوك لأجانب، بينما وصل العدد في عام 2000 إلى 24 مصرف من أصل ثلاثين باتت بأيد أجنبية». وقد ظهرت آثار هذه السياسات بشكل خاص في المناطق الريفيّة: «بشّرت هذه السياسات النيوليبرالية بعهد جديد من الإنتاج غير التقليدي للفواكه والخضراوات المخصصة للتصدير، وبأشكال جديدة من السيطرة على الأراضي، وبإعادة تنظيم علاقات العمل في إطار الزراعة التعاقدية، وبزيادة أعداد الهجرة بشكل كبير من قبل الفلاحين الذين يملكون أراضٍ صغيرة غير قادرة على المنافسة».
وقد تمّ إدخال الموجة الأولى من السياسات الاقتصادية النيوليبرالية على شكل «برامج تكييف هيكلي» تلت ما سمي بـ«المعجزة المكسيكيّة»، وهي الفترة التي شهدت نموّاً مطرداً، واستبدالاً للواردات الصناعية، وارتفاعاً بأسعار النفط. وكما كتب توم باري عام 1995: «تلقّت المكسيك ثلاثة عشرة قرضاً للتكييف الهيكلي من البنك الدولي، أي أكثر من أيّ بلدٍ أخرى. كما أنّها وقعت ستّ اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي، وجميعها زادت الضغط من أجل تحرير التجارة والاستثمار».
 انهارت في الثمانينيات - وهي الحقبة التي تسمّى «العقد الضائع» للمكسيك- أسعار النفط إلى جانب البيزو. بعد أن كانت الدولة المكسيكيّة تملك أكثر من ألف شركة عام 1983، باتت تملك قرابة مئتين عام 1993. لقد ضخّ «برنامج التكييف الهيكلي» المكسيكي عام 1991 مالاً في خزائن الحكومة بحوالي 9.4 مليار دولار نتيجة خصخصة الشركات العامّة، أي أكثر ممّا فعل في أمريكا اللاتينيّة مجتمعة. لقد أصبح الاقتصاد المكسيكي بحلول 1988 بالفعل أحد أكثر الاقتصادات انفتاحاً أمام الاستثمار الأجنبي في العالم بأسره.
لقد مرّت المكسيك بعددٍ من الصدمات الكلاينيّة، وحدثت أهمّ عمليات الخصخصة على إثرها، حيث تمّت خصخصة بعض القطاعات مثل الخدمات المصرفية والاتصالات. رغم ذلك، ففي مطلع «حرب المخدرات» في المكسيك، كانت الشركات الكبرى مثل «الهيئة الاتحاديّة للكهرباء» و«المكسيك للبترول» - التي تحتل المرتبة السابعة عشرة في العالم باحتياطيات النفط- لا تزال مملوكة للدولة. إضافة إلى أنّ المجتمعات الفلاحيّة واصلت ممارسة حقوقها المجتمعيّة على أراضٍ مليئة بالموارد. كما أنّ العائلات المكسيكيّة التقليديّة استمرّت بالسيطرة على قطاعات اقتصاديّة مربحة. ثمّ تمّ في عام 1994 إصدار عدّة تعديلات دستورية لإضعاف سطوة المجتمعات المحلية على الأراضي، وتمّ توقيع اتفاقية التجارة الحرة في أمريكا الشمالية، وهي الفترة التي شهدت قيام انتفاضة زابتيستا، كما تمّ إخضاع العملة لمجموعة أخرى من عمليات تخفيض القيمة. ولكن رغم هذا، بقي قسم كبير من المكسيك ليس مفتوحاً بالكامل أمام الاستثمارات الأجنبيّة.
لقد تحوّل تجّار المخدرات بعد هذه الحروب ليشكلوا «النخب» الحاكمة: البرجوازية والأوليغارشية المالكة للأراضي والسياسية والعسكرية. لقد حدث هذا الأمر في جميع دول المنطقة، في المكسيك وكولومبيا وغواتيمالا وهندوراس والبقيّة.
إنّ تعزيز أمن الدولة كان سببه السعي لحماية الاقتصاد النيوليبرالي وليس السكان. من الأمثلة الواضحة على ذلك: قوات الشرطة الريفية «بينا نيتو»، وهي قوات من النخبة مؤلفة من خمسة آلاف جندي، مهمتهم وفقاً لصحيفة «الإيكونوميست» الناطقة باسم قوى المال: «حماية الأصول الاقتصادية للمكسيك، من نفط وثروة معدنية ومزارع وما إلى ذلك، من الجريمة المنظمة».
النفط والغاز والثروة المعدنية
الشركات العابرة للحدود هي في صميم الصراعات والنزاعات. مثال: في إقليم كاساناري حيث نمت الاستثمارات العابرة للحدود، وتحديداً شركة «بريتش بتروليوم» البريطانية و«بيتروبراس» البرزايليّة، يتعزز الوجود العسكري. يقول،  لافاردي، من مؤسسة «كوزباك» الحقوقيّة: «يمكنك أن ترى كيف تعزز الوجود العسكري الرسمي ممثلاً باللواء 16 من الجيش الكولومبي، عند نمو الاستثمارات الأجنبيّة. بمجرّد تعزز هذين القطاعين المترادفين الكبيرين - رأس المال العابر للحدود والجهاز العسكري الوطني- ظهرت المنظمات العسكرية الموازية في الإقليم... إن أخذت خريطة لكاساناري تظهر فيها بلدياتها التسع عشرة، ثم بدأت تضع علامات على الأماكن التي تمّت فيها عمليات الاغتيال والخطف، فستجد أنّ هذه العمليات لم تتم لا في عاصمة الإقليم ولا في ثاني أكبر مدينة فيه، لقد وقعت هذه الأعمال بكثرة في المناطق القريبة من المنشآت النفطية التابعة لـ«بريتش بتروليوم البريطانية».
ثمّ هنالك الثروة المعدنية، والمكسيك مثال ممتاز في هذا الخصوص، حيث لم تُفتح المكسيك لعمليات الاستخراج والتعدين إلّا حديثاً. ووفقاً للبيانات الصادرة عن الحكومة المكسيكيّة، فقد أنتجت المكسيك حوالي 22 طناً من الذهب عام 2001، ثمّ أنتجت 42 طناً عام 2011، وقد استخرجت معظمها شركات تعدين كندية. تضاعف إنتاج الفضّة في نفس الفترة كذلك. تعدّ المكسيك رابع وجهة عالمية لاستثمارات التعدين بعد كندا وأستراليا والولايات المتحدة، وبالنظر إلى أهداف السياسة الخارجية الأوسع للولايات المتحدة، فإنّ الاقتصاد المكسيكي الكبير الذي تقوده مجموعة من الشركات الرابحة المملوكة للدولة، والأراضي الغنيّة بالمعادن - والتي لا يزال معظمها مملوكاً من قبل الفلاحين والمزارعين- يعني أنّ هنالك فرص جذابة لجني المال.
لقد تمّ بشكل عاجل، عقب «خطّة كولومبيا plan Colombia»، خصخصة شركة الدولة للنفط «إيكوبترول» بشكل جزئي، وأُصدرت قوانين جديدة لتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، وتمّ تدعيم المنظمات شبه العسكرية كي تواجه التنظيمات الثورية اليسارية. لقد ازدادت مستويات العنف في العام التالي على إطلاق الخطّة في 2002 لتحصد حوالي 673.919 ضحيّة للحرب، معظمهم من الفقراء والأغلبية العمّالية، هذا الرقم هو الأعلى في العقود الماضية، ومن ثم تضاعفت جرائم القتل عام 2010، في أعقاب مبادرة «ميريدا» المشابهة بالجوهر.
 عمالة رخيصة
يوجد في أمريكا الوسطى، والمكسيك خصوصاً، ما يثير رأس المال وليس له علاقة مباشرة بخصخصة الشركات العامّة. فالمكسيك التي تمتلك حدوداً مشتركة مع الولايات المتحدة بطول 3200 كلم، هي مصدر قيّم للموارد والعمالة المنخفضة التكاليف. لقد باتت المكسيك تلعب بشكل متزايد دوراً أكبر في صناعات الولايات المتحدة والعالم. وفقاً للمدير التنفيذي لشركة «نيسان» للسيارات، كارلوس غوسن، «لقد أصبحت المكسيك مصدر التصدير لأمريكا الشمالية، وكذلك لأمريكا الجنوبية»، مثال: هنالك في مدينة نويفو لاريدو الحدودية، حيث حدثت أعمال عنف شديدة، قامت فيها عصابات الجريمة المنظمة بتعليق جثث السكان المحليين على الجسر المركزي في المدينة، ونشر صورهم أكثر من مرّة، مصنع لشركة «سوني» اليابانية، حيث تنتصب أعلام اليابان والولايات المتحدة والمكسيك عند المدخل. لا يؤثر العنف الذي يجري في هذه المناطق على الشركات العابرة للحدود، ولكنّه يؤثر على السكان المحليين، وعلى القبول بفرص العمل المتاحة لهم في الصناعات التحويليّة والتجميعيّة مهما كانت سيئة. تقوم أعمال العنف في هذه المناطق، التي تستمر منظمات حقوق الإنسان العالمية بإصدار التقارير عن نكباتها، بمنع قيام أيّ تنظيمات عمّالية وبإبقاء الأجور منخفضة على طول الحدود، وهما الأمران الضروريان لتحديد مستقبل قطّاع حيوي في اقتصاد الولايات المتحدة.
إنّ عمليات التهجير والنزوح الجماعي بسبب العنف والعسكرة تفيد كلّ قطاعات رأس المال. فهي تفيد شركات النفط والاستخراج بتخويلها الاستحواذ على الأراضي التي كانت مأهولة من قبل، والتي باتت خاوية إلّا من المقابر والأشباح والفراغ. لكنّ بعض القطاعات التي مورس عليها التهجير لم تترك للخواء، بل لإعادة إنشاء وتعمير كاملة. منطقة وادي خواريز هي أحد الأمثلة على ذلك: حيث خضعت بعد تهجير سكانها إلى إعادة تطوير وإنشاء وتعمير عن طريق بناء مشاريع إسكان ومدن صناعية بقيمة 400 مليون دولار في سان أوغستين التي تبعد حوالي 30 كلم عم مدينة خواريز، لقد تولّت شركة «برودنتشال فايننشال» بالتعاون مع أحد وكلائها في المكسيك أمر المشروع. ويخبرنا المسؤول في المدينة، ليوبولد كانيزالس، عن أهمية مثل هذه المشاريع السكنية بقوله «مشروع سان أوغستين هو أحد المشاريع الطموحة لبناء مدينة جديدة كليّة. وهو سيكون مهماً جداً نظراً للتوسّع الكبير في قطّاع الصناعات التحويليّة في المكسيك. إنّ لدى هذه المناطق الحدودية مع الولايات المتحدة ميزات هائلة، فالبضائع التي تخرج منها تصل إلى جزء كبير من البلاد في يوم أو اثنين، بالمقارنة مع البضائع الآتية من الصين والتي تستغرق 21 يوماً على الأقل في البحر... إضافة إلى أنّ الأجور في المكسيك هي أقلّ بكثير منه في الصين». إنّ الشركات العابرة للحدود هي المسؤولة عن وصول الأمور إلى ما هي عليه، وبالتالي فإنّ تكريس الأجور المنخفضة وعمالة الأطفال وتدني مستويات النمو والتطور والتعليم هو ما تقوم به هذه الشركات.

معلومات إضافية

العدد رقم:
831
آخر تعديل على الأحد, 08 تشرين1/أكتوير 2017 13:37