هل تعيش الولايات المتحدة لحظة تفكك الاتحاد السوفييتي؟
 ريتشارد كوك  ريتشارد كوك

هل تعيش الولايات المتحدة لحظة تفكك الاتحاد السوفييتي؟

اتهمت مصادر عدّة الولايات المتحدة بمحاولة فرض عالم واحد، تمليه هي على بقية الأمم. يُظهر المقال التالي (المنشور كاملاً على موقع قاسيون الإلكتروني) اتساق فكرة النظر إلى العالم كمتعدد الأقطاب مع الواقع أكثر من فكرة العالم الواحد. ينبغي أن يُنظر إلى القدرة على التسامح مع التنوع الذي ينطوي عليه عالم متعدد الأقطاب، على أنها إشارة إلى النضج وليس إلى الضعف. نحن بحاجة إلى مثل هذا النضج بشكل عاجل في عالم اليوم، حيث تنحدر البشرية على منحدر زلق إلى الانقراض.

تعريب: عروة درويش


رغم أن النقاش فلسفي، فإنّ له نفاذ إلى ما يتعلق بالحياة والموت في الصراعات الجيوسياسية الحالية. لا شيء أكثر خطورة من التهديدات والنزاعات المتنامية بين القوى المسلحة نووياً، والتي فقدت القدرة على الاستبطان والاحترام المتبادل. فالأمر يبدو وكأننا نشهد أزمة الصواريخ الكوبية بشكل يومي.
الموقع المتفوق بشكلٍ تام
يأتي في المقدمة ما يبدو واضحاً للعيان، أنّ أجندة «الدولة العميقة» في الولايات المتحدة هي إخضاع العالم. وما يؤكد هذا الهدف هو الإعلان الصريح للقوات المسلحة الأمريكية عن نيتها في تحقيق «موقع الهيمنة التام»، والذي يُعرف أيضاً «بتفوّق الموقع التام». ويعرّف قاموس وزارة الدفاع للمصطلحات العسكرية، والصادر في آذار 2017، مصطلح «تفوّق الموقع التام» بأنّه: «التأثير المتعاظم للهيمنة على الجو والأرض والبحر والمجالات الجوية والطيف الكهرومغناطيسي وبيئة المعلومات (التي تشمل الفضاء الافتراضي)، بما يسمح بإجراء عمليات مشتركة دون مقاومة فاعلة أو تدخل مانع (الصفحة 97)».
وما رأي العالم إن أتى مريض إلى عيادة طبيب نفسي وهو يتلفظ بهكذا أفكار؟ سوف يعتبر على الفور بأنّه متوهم ومصاب بجنون الارتياب وربّما الذهان. ومع هذا، فقد تمّ منح الناس الذين يتكلمون بهذه الطريقة ترسانة فاعلة قادرة على تدمير كامل الحياة على كوكب الأرض، وركّزت قوات على أهبة الاستعداد في حوالي 150 دولة، مع منشآت عسكرية حقيقية في 30 منها. لدى بحرية الولايات المتحدة 273 سفينة «مجموعاتية حربية» كبرى في الخدمة في أعالي البحار، ومستعدة للحرب في أي وقت. وفي هذه الأثناء، أعلن «الخصوم» المُفترضون بشكل واضح بأنّهم لن يتراجعوا.
ولهذا يتضمن «تفوّق الموقع العام» اليوم تمزيق معاهدة الصواريخ المضادة للبالستية، كما فعلت إدارة جورج بوش الابن، والقيام الآن بتطويق روسيا ببطاريات صواريخ أرض - جو القادرة على ضرب الصواريخ الروسية ذات الرؤوس النووية، التي تستهدف أوروبا والولايات المتحدة، وهي في السماء.
ويسهل رؤية كيف توصلت دراسة أجراها مؤخراً معهد الأمم المتحدة لنزع السلاح إلى أنّه: «يمكن القول بأنّ تهديد وقوع حادث تفجير سلاح نووي في 2017 هو الأعلى في 26 عاماً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي». يسهل الوصول إلى هذا الاستنتاج عندما تقوم الولايات المتحدة بتحويل وضع قواتها في أوروبا الشرقية إلى جهوزية القتال، وذلك وفقاً لشهادات عددٍ من الجنرالات الأميركيين أمام الكونغرس.
الدولة العميقة
لكن من ذا الذي يسيطر على «الدولة العميقة» في الولايات المتحدة والمسؤول عن هذه النوايا؟ ومن قِبل من، ولماذا، وكيف يتمّ اتخاذ القرارات لنشر القوة العسكرية؟ وبشكل خاص، من الذي يسيطر على الأسلحة النووية؟ تمّ اعتبار هذا الأمر بأنّه السؤال السياسي الرئيس في وقتنا لمدة ثلاثة أرباع القرن.
هنالك أمران واضحان:
ليس رئيس الولايات المتحدة هو الشخص المسيطر، بل يتم إعداد القرارات من قبل أحدٍ آخر، وتسلّم له عن طريق مؤسسة الأمن القومي.
لا يهدف جيش الولايات المتحدة من أفعاله تحقيق استقرار عالم متعدد الأقطاب. بل يهدف إلى فرض إرادة كينونة أو كينونات تريد وضع العالم تحت سيطرة نظام سياسي/ اقتصادي واحد.
وهذا هو سبب تركيز أيّ عمل عسكري تقوم به الولايات المتحدة، أولاً وقبل كل شيء، على «تغيير أنظمة الحكم».
فما الذي يجري حقيقة هنا؟ دعونا نعود للتاريخ: خاضت الأمم الكثير من الحروب قبل الحرب العالمية الثانية. لكن بعد أن يتمّ حشد الجيوش والأساطيل لتجري الحرب حتى نهايتها، كان العالم يعود إلى أساليبه السلمية. وأياً كانت التغييرات التي طرأت على الحرب فقد استمرت، لكن عادة ما كان يتمّ وضع الأسلحة جانباً لتستمر الحياة.
لقد تغيّر ذلك عند إنشاء قوات مسلحة جاهزة ودائمة. أحد التغييرات الكبيرة التي حدثت في القرن التاسع عشر هي بناء بحرية بريطانية كبيرة كفاية «للحماية» وللسيطرة على الإمبراطورية البريطانية حول العالم.
لقد تمّ تفكيك الجيوش الباقية بعد الحرب العالمية الأولى بشكل كبير. لكنّ القتال استمرّ على أيّة حال بعد الحرب العالمية الثانية، فقد نشبت الحرب الكورية في الخمسينيات، وثمّ الحرب الفيتنامية في الستينيات والسبعينيات.
ساء الوضع بشكل متزايد خلال نصف القرن التالي. فكما أشرنا في الأعلى، تعاظم الخطر عند انتخاب رونالد ريغان كرئيس. فالكثير من المسيطرين أتوا من منظمة تدعى «لجنة الخطر الحالي»، والتي جادلت بأنّ قوة الاتحاد السوفييتي تتطلب وضع الولايات المتحدة في حالة حرب دائمة.
كان هذا جديداً. ثمّ بعد الحرب العراقية الأولى بقيادة خليفة ريغان، بوش الأب، طُبقت عقيدة الحرب النشطة التي لا تنتهي. وهكذا، وبعد هجمات الرئيس بيل كلينتون على يوغسلافيا، و9/11 أيام الرئيس جورج بوش الابن، أتت «الحرب على الإرهاب». وقد عنت هذه الممارسة بأنّه قد يتم بشكل مبرر غزو أية دولة تصنفها الولايات المتحدة «كخصم»، وتصبح خاضعة لتغيير نظام الحكم بشكل يبرره حق الولايات المتحدة الوطني.
من الواضح، أنّه لا يمكن أن يوجد عالم متعدد الأقطاب في ظلّ هكذا ظروف. يمكن فقط أن يكون هناك قاعدة واحدة وقانون واحد في أيّ جزء من العالم، وهو تطبيق وتنفيذ ما تقرره «الدولة العميقة» في الولايات المتحدة، وذلك عبر العمل العسكري.
التجويف الاقتصادي
في هذه الأثناء، وكما كان متوقعاً، أصبحت الآلة العسكرية الأمريكية هي التجويف الاقتصادي الرئيس للدولة الأمريكية. لقد بلغت ميزانية وزارة الدفاع 598 مليار دولار في عام 2015. كما أنّ الولايات المتحدة هي المصدّر الرئيس لهذا النظام الذي يعمل فيه الملايين من الناس، ويشمل هذا العسكريين والموظفين المدنيين والمقاولين ومجموعات الضغط.
ثمّ هنالك المعتمدون على الإعانات والمتقاعدون. ويمكننا أن نضيف ملايين الموظفين في قطاعي الخدمات والتصنيع، والذين يعملون بشكل مباشر أو غير مباشر لتلبية الاحتياجات اليومية لجميع الذين يوظفهم الجهاز العسكري. وهذا يشمل أيضاً جنسيات بلدانٍ أخرى تقدّم الخدمات للجيش الأمريكي في الخارج.
يمكن أن ندعو هذا النظام «رفاه الشركات»، لكن يمكننا أن نصطلح على تسميته كذلك مجتمع العسكر، حيث يعتمد جميع المدراء والموظفين والمرتبطين بهم على إنفاق الحكومة الفدرالية في تأمين سبل عيشهم. يدّعي هؤلاء الأشخاص بأنهم يدافعون عن «نظام الأعمال الحر»، رغم أنّهم يعتمدون بأنفسهم على رواتب الحكومة طوال حياتهم المهنية.
يقود هذا النظام الولايات المتحدة إلى الإفلاس. حيث يمكن تمويله فقط من خلال المزيد من الدين الحكومي، وذلك عبر فقاعات سندات الخزينة والتيسير الكمّي، ويدير كليهما بنك الاحتياطي الفدرالي.
وفي هذه الأثناء، وبينما تنضج الدول الأخرى اقتصادياً، تفقد الولايات المتحدة باطّراد هوامش ربحها جرّاء استخدام الدولار كعملة احتياطي دولي. يعتمد هذا الاستخدام على البترودولار كقاسم مشترك لتجارة النفط العالمية، ولكنّه أيضاً يميل للانخفاض في الأسواق العالمية.
تخلّت الولايات المتحدة في بداية السبعينات عن الذهب كوسيط معياري للتبادل الدولي. وأصبح البترودولار هو الداعم للدولار الذي فرضته القوّة العسكرية. بدأ بيت القش هذا يتهاوى الآن، فقد بدأ الذعر يستشري لكون الولايات المتحدة تحاكي اللافاعلية القصوى للاتحاد السوفييتي في الوقت الذي سبق انهياره.
هذه هي نقطة ضعف «تفوّق الموقع التام». تخلق زعزعة هذا النظام حاجة ماسّة لإتمام مهمته بالسيطرة العالمية الكليّة، ذلك قبل أن يتمّ سحقه أو هزيمته من قبل واحد أو أكثر من الخصوم. يتطلب الأمر منا كي نقارب هذه المسائل بشكل شامل أن نحفر بعمق في النفس البشرية. لا يمكن لأيّ نوعٍ آخر على الأرض أن يتصرّف وفقاً لهذه الافتراضات العمياء مثل ما يفعل الجهاز العسكري الأمريكي. فعلى النقيض من ذلك، تسعى الطبيعة بشكل دائم إلى تحقيق التوازن والحدود في خضم التنوع: عندما أصبحت الديناصورات كبيرة جداً أو شرهة انقرضت، فكيف يمكن للأمريكيين أن يعتقدوا بأنّهم استثناء من القانون الطبيعي؟
الخلايا السرطانية
هناك ظاهرة طبيعية تعمل بشكل مشابه «لتفوّق الموقع التام»، وهي الخلايا السرطانية. فإن تُركت مثل هذه الخلايا من دون ردع فستقوم بسرعة بقتل معيلها وتقتل بذلك نفسها. يحاكي مبدأ الجيش الأمريكي، وبالتالي الحكومة الأمريكية التي تقف خلفه، آلية عمل الخلايا السرطانية.
وهذا ينسحب في واقع الأمر على كلّ عقيدة ترهن بقاءها بتدمير أو استعباد البشر الآخرين، ويتطلّب تحقيق «تفوّق الموقع التام» الاستعباد العالمي. وهذا يعني بالضرورة عبادة النظام الذي يحميه ويوسعه الجيش الأمريكي. هذا النظام هو الرأسمالية المالية الدولية، أي السطوة الكاملة للمال على حياة الإنسان والقيم.
ويعتبر البعض، من بين الذين يتبنون هذه الرؤية العالمية، أنفسهم «الشعب المختار». ولذلك لا يستغرق الأمر وقتاً طويلاً لنكتشف بأنّه يوجد في صلب أساطيرهم الثقافية الكثير من الإشارات إلى تفوقهم المُفترض على الآخرين، دينياً وعرقياً وثقافياً وتاريخياً. ولنكتشف كذلك ما يشير إلى الحالات التي تعرضوا فيها للاضطهاد والإيذاء والمضايقة، ممّا يبرر لهم بالتالي الانتقام.
وما الذي سيتطلبه الرجوع من الهاوية؟ من الواضح أنه يتطلّب الاعتراف بالعالم متعدد الأقطاب الذي يتحدث عنه كثيرون. حيث لا تظهر كلّ من روسيا والصين وإيران وكوريا الديمقراطية وغيرها، علامات على الرغبة في غزو الولايات المتحدة. وبالاستفادة من فن السياسة الحكيمة، يمكن للولايات المتحدة وحلفائها والدول الأخرى أن تحاول على الأقل أن تتعايش مع تلك الدول كجزء من المجتمع الدولي.
والطريق الوحيد إلى المجتمع الدولي هو عبر السلام وليس بالحرب والغزو. وقد تمّ الإقرار منذ فترة طويلة بأنّ الشراكة التجارية والعلمية، هي التي تدعّم السلام العالمي.
عالم متعدد الأقطاب؟
تعود روسيا إلى الواجهة من جديد، وهي تقترح شيئاً جذرياً، وهو أننا نعيش في الواقع في «عالم متعدد الأقطاب». يُنظر إلى هذا العالم على أنّه يضم أكثر من مركز قوّة واحد، حيث يجب أن تؤخذ فيه آراء ومصالح اللاعبين المختلفين في الاعتبار. وبشكل طبيعي، ينظر أنصار «تفوّق الموقع التام» إلى روسيا على أنّها الشيطان نفسه.
خلقت الأسلحة النووية حالة طوارئ. وفي هذه الحالة الطارئة أقرّ الناس الذين أنشأوا الأمم المتحدة بأهمية عالم متعدد الأقطاب عن طريق إنشاء مجلس للأمن ليكون هو الميدان الرئيس لمناقشة المسائل ذات الأهمية العالمية، وثمّ اتخاذ الإجراءات بشأنها.
لم ينتظر أحد من مجلس الأمن أن يكون مهرجاناً للحب اليومي، ولكنّه موجود هناك لغرض. إلّا أنّ الولايات المتحدة تعتقد بأنّه يمكنها اتخاذ إجراءات من جانب واحد، كما حدث أثناء هجوماتها الأخيرة، وذلك دون الإشارة إلى الأمم المتحدة أو حتّى دون مناقشة الأمر مع بقية أعضاء مجلس الأمن. والواقع أنّ وظيفة نيكي هالي، ممثلة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، تبدو متمثلة بشكل رئيس بإطلاق التهديدات.
وأياً كان التوجه الذي سنأخذه تجاه الوحدة العالمية، فلا يزال هناك حاجة لإقرار جميع الفرقاء بأننا نعيش في عالم متعدد الأقطاب، وبأنّ الأمر سيبقى على هذا النحو (قبل أن تأخذ الموازين الدولية وتقلباتها مداها الكامل) إن كنّا نريد وجود عالمٍ على الإطلاق.
ولا ينبغي التخلي عن فكرة عالم واحد يحققه الغزو العسكري فحسب، بل أيضاً عن فكرة عالم واحد نصل إليه عبر السيطرة المالية العالمية.
يسعى النظام المصرفي الدولي إلى توحيد العالم تحت غطاء قروض باهظة الفوائد، تحوّل كل التدفقات النقدية في العالم إلى أيدي المسيطرين مالياً. هذا هو كنه العولمة والنظام العالمي الجديد: استعباد العالم من قبل المادية والمال. إنّه نظام للسيطرة التوتاليتارية مبني على العنف والجشع، لكنّه يستخدم أيضاً أدوات مثل الترفيه والمخدرات والمواد الإباحية، وذلك من أجل إفساد وإنهاك والسيطرة على السكان.
إن النظام المالي أكثر غدراً من العدوان العسكري الصريح، ولكنه قاتلٌ مثله. يؤدي «تفوّق الموقع التام» في التمويل العالمي إلى انقراضٍ هائل في الأنواع وإلى تغيّر المناخ وإلى تهديد الوجود البشري نفسه.
لقد تمّ بحث ونقاش بدائل هذا النظام بصورة متزايدة. من الضروري وبصورة عاجلة إعادة القوة الاقتصادية إلى المجتمعات المستقلة والتي تشكل الآن جزءاً من السوق العالمية. وينطبق ذات الأمر على نوع الوجدان الذي لا يدفع بالبشر إلى الانعزال في فضائهم الشخصي، بل إلى تحمّل المسؤولية عن عواقب وجودهم على سطح الأرض.
أعتقد بأنّ خلق وبسط عالمٍ متعدد الأقطاب ينبض بالحياة، يدعم حرية الإنسان بشكل صحي، هو واجبنا الوجداني.

معلومات إضافية

العدد رقم:
812