نذير جزماتي نذير جزماتي

الاستراتيجية الأمريكية بين الليبرالية والخطط العسكرية...

لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها

إن كانت شهماً فاتبع رأسها الذنبا

يختبىء أعوان الإمبريالية الأمريكية من ليبراليين جدد وقدامى، سريين وعلنيين، من وراء الحجة القائلة بأن الأنظمة الشمولية مثل النظام القائم في سوريا، وقبله النظام الذي كان قائماً في العراق، لا يمكن تغييرها إلا بقوة التدخل الأمريكي. ويبدون أسفهم الشديد لأن البنية المجتمعية المتخلفة في العراق لم تسمح بتنفيذ الخطط الأمريكية الرامية إلى إقامة عراق تزدهر فيه الحرية والديمقراطية، ويتناسى الحاقدون منهم على النظام بسبب ما أصابهم من سجن وتعذيب...وإلخ، ويتجاهل الطامحون باعتلاء كراسي الحكم الأمريكي لبلادهم، كل ما عرفوه عن الإمبريالية والصهيونية، وراحوا يعزفون معاً أسطوانة التبشير بعهد أمريكي مشرق ينتفي فيه كتم أنفاس الناس، مثلما انطلق معظمهم مبشرين، قبل عقدين أو ثلاثة بإقامة الاشتراكية وانتفاء استثمار الإنسان للإنسان. ويتمنى هؤلاء وأولئك علينا أن نتكلم عن أمريكا من دون إلصاق (تهمة) الإمبريالية بها، وفصلها فصلاً تاماً عن الصهيونية التي لازالت صفحاتها سوداء جداً في أعين أوسع أوساط الشعب السوري وباقي الشعوب العربية.

ولا حاجة بنا إلى التأكيد مرة أخرى بأن الصهيونية ليست أكثر من أجير من أجراء الإمبريالية الكثر ومنهم جماعتنا الليبراليون الجدد الذين يفتخرون بهذا اللقب. وإذا كان النموذج (الليبرالي الجديد) في أغلب بلدان الأطراف قد انتصر ونجمت عنه تبعية جديدة لا تقل رسوخاً عن أشكال تبعية وجدت في السابق (1) فإن أمريكيين شماليين مثل نعوم تشومسكي، اليهودي الأمريكي الرائع، تقدموا ويتقدمون إلى الأمام، وهم يفضحون الإمبريالية الأمريكية التي تفرض النظام العالمي الجديد الذي هو نسخة طبق الأصل عن الأنظمة العالمية السابقة التي كانت تسمى جديدة أيضاً. فمنذ عام 1492 و«الرجل الأبيض في أوربا يواصل غزوه لبلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ولم يتبدل شيء في النظام لعالمي القديم هذا، باستثناء اللافتات التي يتم الغزو تحتها»(2) كأن تكون تحرير العراق من صدام، أو نشر الديمقراطية أو محاربة الإرهاب.

وسبق لآدم سميث أن قال: أن الأوربيين «بفضل القوة التي حازوها كان مقدورهم ارتكاب كل أنواع المظالم... وبالتالي، انتقل غنى المستعمرات إلى بريطانيا خالقاً ثروات ضخمة»(3) واستنتج تشومسكي أن النفاق لم يكن من سمات الاستعمار القديم وحده، بل هو من سمات الاستعمار الحديث، والحديث جداً. أما عن وقاحة المسؤولين الأمريكيين واحتقارهم الشعوب الأخرى، خاصة الملونين، فحدث ولا حرج. وعلى سبيل المثال، قال الرئيس العاشر للولايات المتحدة، بعد أن ضمن احتكار زراعة القطن إثر غزو وضم قرابة ثلث المكسيك: «أننا بضماننا هذا الاحتكار، نضع كل الأمم تحت أقدامنا»(4) وقال جورج كينان، في أواخر الأربعينات، ما يريد الليبراليون الجدد اليوم إخفائه، وهو: «أن نكف عن الكلام عن أهداف غير واقعية وغامضة، مثل حقوق الإنسان، ورفع مستوى المعيشة، ونشر الديمقراطية»(5).

وكان الهم الأكبر في الشرق الأوسط أن يبقى نظام الطاقة (النفط) في اليد الأمريكية، وأن يستمر العمل وفق الطريقة التي وضعها البريطانيون، أي يمكن أن تعهد بالإدارة المحلية لـ «واجهة عربية»، بحيث يكون «امتصاص» المستعمرات مستوراً بأكاذيب دستورية، كمحميات، أو مناطق نفوذ، أو دويلات عازلة...إلخ» وهي وسائل أكثر فاعلية وأقل كلفة من الحكم المباشر. وحذر جون فوستر دالاس في أواسط الخمسينات قائلاً: «لا يجوز لنا أن نخاطر بفقدان السيطرة ولذلك يجب أن تتكون الواجهة من ديكتاتوريات عائلية تلتزم جيداً بما يقال لها وتضمن استمرار تدفق الأرباح للولايات المتحدة وعميلها البريطاني وشركائهم. كما يجب أن تتم حمايتها بقوى إقليمية قادرة، ومن الأفضل أن لا تكون عربية (مثل تركيا، وإسرائيل، وغيران الشاه، وباكستان) مع بقاء العضلات الأمريكية والبريطانية كاحتياط»(6).

وبعد حرب الخليج الثانية، عاد جورج بوش (الأب) لدعم صديقه صدام حسين (الذي خاض حرب الخليج الأولى من عام 1980 إلى عام 1988 نيابة عن أمريكا)، «وتحالف معه بسحق الشيعة في الجنوب أولاً، ثم الأكراد في الشمال من أجل الاستقرار(7).

وغطت الولايات المتحدة كلفة الطاقة المتزايدة بزيادة الصادرات العسكرية وغير العسكرية لمنتجي النفط في الشرق الأوسط، وبمشاريع إنشائية ضخمة عندهم(8) وفي المقابل «جاء أكثر من نصف صادرات ماليزيا إلى الولايات المتحدة من شركات أمريكية تابعة عاملة في ماليزيا. وأكثر من خمس شركات مصدرة للإلكترونيات في تايوان وهي شركات أمريكية، في حين كانت 47% من صادرات سنغافورة عام 1992 عائدة لشركات يملكها أمريكيون. وبالمثل يعود معظم الفضل في ارتفاع شأن كوريا الجنوبية في ميدان الإلكترونيات لصادرات البضائع الإلكترونية المنتجة من قبل منتجين يابانيين عاملين فيها(9).

وسبقنا إلى الفردوس الذي يدعونا إليه الليبراليون الديمقراطيون الأحرار الجدد، كل من بوليفيا التي يحكمها «جنرالات المخدرات، والتي يعتمد فيها حوالي 20% من قوة العمل في عيشها على إنتاج وتجارة الكوكا والكوكائيين، وجزيرة غرنادا (غرناطة) التي لا يتجاوز عدد سكانها 250 ألفاً، ولم تحتمل الولايات المتحدة رئيس وزرائها بيشوب فغزتها عام 1983 وأخذت البلاد «تعاني من أرقام قياسية في مستويات الإدمان على الكحول وسوء استخدام المخدرات» ومن «18 مصرفاً بمعدل مصرف لكل 64 من السكان. ولم يكن مصير بناما التي تعرضت للغزو عام 1989 أفضل من ذلك، فقد ازداد تعاطي المخدرات بمعدل 400% منذ الغزو وتحولت نيكاراغوا تحت الرعاية الأمريكية إلى ممر لشحن الكوكائيين الكولومبي إلى الولايات المتحدة، وفيها نفسها ازداد استهلاك المخدرات، وعدد أطفال الشوارع وتسير على الدرب نفسه السلفادور. أما كولومبيا فإن قوات الأمن المسلحة والمدربة أمريكياً تواصل حملات النهب والإرهاب والتعذيب وحالات الاختفاء الموجهة ضد القادة النقابيين، ورموز المعارضة السياسية، والناشطين اجتماعياً، والعاملين في مجال حقوق الإنسان. والوضع في البيرو أسوأ(10).

وإمعاناً من الليبراليين الجدد في انتهاك مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان...إلخ، يتجاهلون عن عمد الهجوم الشديد الذي قادته الولايات المتحدة على الأمم المتحدة وأدى فعلاً لإلغاء وجودها، وتزعمت الاتجاهات اليمينية الهجوم على كل المؤسسات في المجتمع الأمريكي، وبالدرجة الأولى على المؤسسات العلمية والتعليمية(11) وقد أدت مجموعة التدابير التي تتخذها الدول الغنية وعلى رأسها الولايات المتحدة في مواجهة الدول الأفقر إلى وجود 83 بالمئة من الثروة العالمية في أيدي المليار الأغني، بينما لا يوجد سوى 1.4% في أيدي المليار الذي في أسفل القائمة. وكانت خلاصة عشرات السنين من الأقراض من أجل التنمية هي أن البلدان الفقيرة قد أضحت أخيراً تحول أكثر من 21 مليار دولار سنوياً إلى خزائن الأغنياء(12).

ولازال أحد أهداف النظام الرأسمالي بشكل عام ونظام الولايات المتحدة بشكل خاص «هو الجماهير الغفيرة التي لا بد من إبقائها على حالها، لابد من إلهائها بتبسيطات مفرطة مشحونة بشحنات عاطفية قوية، لابد من تهميشها، ولابد من عزلها. فالصورة المثالية هي أن يصبح كل شخص وحيد واحداً أمام شاشة التلفاز يشاهد البرامج الرياضية، المسلسلات الترفيهية، والعروض الكوميدية، محروماً من البنى التنظيمية التي تتيح للأفراد المفتقرين إلى الموارد فرصة اكتشاف ما يفكرون به عبر التفاعل مع الآخرين بغية صياغة همومهم وبرامجهم، وصولاً إلى العمل في سبيل تحقيق هذه البرامج(13).

7/9/2005

المصادر:

(1) بيتر تيلور وكولم فلنت، الجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر (القسم الأول)، عالم المعرفة، الكويت، 2002، ص 247.

(2)-(12) نعوم تشومسكي، 501 الغزو المستمر، دار المدى 1996.

 

(13) نعوم تشومسكي، ردع الديمقراطية، دار كنعان، دمشق، 1990، ص 143.