الولايات المتحدة نحو 1929 مجدداً واشنطن في مأزق تاريخي باتجاه السقوط

تحت عنوان «التدهور الاقتصادي وبدايات السقوط» نشر الباحث اللبناني د. غالب أبو مصلح مادة بحثية موسعة في صحيفة الأخبار تناولت بالقرائن التاريخية والراهنة والأرقام الموثقة واقع الإمبريالية الأمريكية الآيل للانهيار. وتقوم قاسيون فيما يلي بنشر مقاطع من هذه المادة لتتبعها بحوار مع د. أبو مصلح تعميقاً لبعض جوانب الموضوع حسبما تسمح المساحة المتوافرة:

«إن تاريخ صعود قوى عظمى ثم انحدارها من منظومة القوى العظمى، منذ تقدم أوروبا الغربية في القرن السادس عشر، مثل إسبانيا وهولندا وفرنسا والإمبراطورية البريطانية، والولايات المتحدة، يظهر تلازماً واضحاً على المدى الطويل بين الطاقة الإنتاجية وواردات الدولة من ناحية، والقدرات العسكرية من ناحية أخرى». (بول كينيدي)

عند نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبحت الولايات المتحدة القوة العالمية الكبرى على الصعيدين الاقتصادي والعسكري. كانت الدولة الوحيدة التي خرجت من الحرب أغنى مما كانت عليه عند دخولها. فقد بلغ احتياطي الذهب لديها 20 مليار دولار، وما يعادل قرابة ثلثي الاحتياطات العالمية من الذهب، التي بلغت في ذلك الحين حوالى 33 مليار دولار. وكانت الولايات المتحدة تنتج أكثر من نصف الإنتاج الصناعي العالمي، وتبلغ صادراتها ثلث الصادرات العالمية.

لهذه الأسباب مجتمعة، استطاعت الولايات المتحدة بناء النظام العالمي الجديد، في ظل هيمنتها وحسب مصالحها، على المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وكانت مقومات هذا النظام الجديد المنظمات المالية والتجارية والاقتصادية المتمثلة بثلاثيّ صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية. وكذلك تم بناء نظام نقدي عالمي حسب اتفاقات «بريتون وودز»، حيث أصبح الدولار هو العملة العالمية التي ترتبط به عملات الدول، وثبت سعر صرفه عبر ربطه بالذهب، وعبر جعله قابلاً للتحويل إلى ذهب أيضاً. (..)

وكان على القوات المسلحة الأميركية تأمين مصادر الخامات والسلع الإستراتيجية وطرق إمدادها، (..) وهناك علاقة جدلية بين القوة العسكرية والثروة، كما يقول بول كينيدي: «إن الثروة ضرورية من أجل بناء القوة العسكرية، والقوة العسكرية ضرورة، في العادة، من أجل الحصول على الثروة والحفاظ عليها». (..) وسبق لروزفلت، بعيد الحرب العالمية الثانية، أن وضع المبدأ المعروف باسمه، في خطاب ألقاه في شهر آذار 1947 لمواجهة «التهديد الأحمر»، واضعاً ثنائية «الخير والشر» في هذا العالم، (..) وما زالت هذه الثنائية قائمة حتى اليوم، مع حلول الإسلام وحركات التحرر الوطني مكان الاتحاد السوفييتي، تبريراً للمغامرات الإمبريالية وأهدافها الاقتصادية والسياسية. (..) عند بداية سنة 1970، كان للولايات المتحدة أكثر من مليون جندي منتشرين في ثلاثين دولة في العالم. وأصبحت عضواً في أربعة أحلاف عسكرية دفاعية ومناطقية (..) ولديها معاهدات دفاع مشترك مع 42 دولة، وعضو في 53 منظمة عالمية، وتقدم مساعدات عسكرية واقتصادية إلى حوالى 100 دولة في العالم.

غير أن تقديم مساعدات اقتصادية لا يعبر عن نوايا طيبة تجاه دول العالم الثالث بشكل خاص. بل إن تقديم هذه المساعدات هو لخدمة المصالح والأهداف الإمبريالية الأميركية. يقول «بول سويزي»، المفكر والاقتصادي المرموق، «عموماً، كلما زادت المساعدات، كلما قلّ التطور، والأسباب عديدة. إن نسبة عالية من المساعدات ذات طابع عسكري... وهي مجدية فقط لدعم حكومات غير شعبية، ولإبقائها في السلطة. قسم كبير منها يتم امتصاصه من قبل مسؤولين فاسدين، أجانب وأميركيين».

كما إن نمو القدرات العسكرية الأميركية كان استجابة لحاجات النظام الرأسمالي الأميركي الذي تتجه تركيبته أكثر فأكثر نحو مزيد من الاحتكار والعولمة. ففي هذه المرحلة من نمو الرأسمالية، المرحلة الإمبريالية الجديدة، حيث تتغير قوانين المنافسة بين الشركات العملاقة المعولمة، تأخذ المنافسة بين الشركات أشكالاً جديدة، تركز على جهود التسويق والبيع. وتنعكس جهود التسويق والبيع هذه على العملية الاقتصادية و«تخلّف ثقافة مميزة للرأسمالية الاحتكارية»، كما يقول بول سويزي. ثم «إن حاجات الشركات العملاقة تقوم على توجيه نشاط الدولة... إذ إن هذا النظام لا يعرف طريقاً آخر سوى العنف غير المحدود، أو تهديدات العنف للسيطرة على «إزعاجات» الأنماط الاجتماعية الأخرى، وحركات التحرر الوطنية الثورية».

إن تنمية القدرات العسكرية الأميركية لم تكن دائماً استجابة لتحدّيات عسكرية، (..) بل إن منطق النظام وبنيته الداخلية يفرضان مزيداً من الإنفاق العسكري، وتوسيع الهيمنة الأميركية على الصعيد العالمي. إن استقرار النظام الاقتصادي الأميركي يعني بشكل ما، استقرار وحداته الإنتاجية العملاقة، أي الشركات الكبرى المعولمة، عبر تأمين طلب مستقر لإنتاجها من قبل الحكومة. ويشكل الإنفاق العسكري المتنامي إحدى ركائز استقرار الطلب ونموه. فالمجمع الصناعي العسكري يشكل قوة ضغط كبيرة ومتحكمة إلى حد بعيد بالقرار الأميركي الداخلي والخارجي، ويدفع في كثير من الأوقات إلى خيار الحروب لرفع الطلب على إنتاجه.(..) ويقول توم أودونيل «إن الشركات النفطية العملاقة، ومعظمها أميركي، اندمجت عملياً منذ حرب 1973 في المجمع الصناعي العسكري، ليشكلوا جميعاً الحلقة الجهنمية في السياسة الخارجية الأميركية».

(..)فالحرب على العراق رفعت من ربحية شركات النفط كما صانعي الأسلحة(..) يقول بول كينيدي، «إن القوى العظمى التي تمر في مرحلة الانحدار النسبي، تستجيب بإنفاق أكبر على «الأمن»، وبالتالي تحوّل موارد ممكنة من التوظيف المنتج، وتعاظم مأزقها الطويل الأجل»، وهذا ما يحصل للولايات المتحدة، إذ تحاول التعويض عن انحدار هيمنتها الاقتصادية بتنمية هيمنتها العسكرية، لتوسيع أسواقها الخارجية، في الوقت الذي تزداد حمائية في الداخل، ولمزيد من التحكم في مصادر النفط والمواد الخام الإستراتيجية، وطرق إمدادها، بغية ابتزاز دول العالم بهذا التحكم. ولكن المغامرات (العسكرية) الإمبريالية أظهرت أن الحروب تنعكس بشكل سلبي وقاس على داخل الدول المعتدية، على الصعد الاقتصادية والسياسية، كما على تماسك ووحدة مجتمعات هذه الدول.

أصبح الانحدار النسبي المتسارع للولايات المتحدة واضحاً للمراقبين الاقتصاديين والسياسيين. فنصيب الولايات المتحدة من الناتج العالمي آخذ في الهبوط منذ بداية الخمسينات من القرن الماضي، مما يقارب 45% إلى أقل من 20%، ويتجه إلى 16% في الوقت الراهن. (..)

كانت الولايات المتحدة أكبر دولة دائنة في العالم، فأصبحت أكبر دولة مدينة. (..) وبلغ عجز الموازنة لسنة 2004 422 مليار دولار، ما يعادل 3.6% من الناتج المحلي القائم. أما العجز في حساب المدفوعات الجاري السنوي، فقد بلغ 541.7 مليار دولار لسنة 2003، وارتفع إلى 780.6 ملياراً لسنة 2005، وبلغ 850 مليار دولار لسنة 2006. كما بلغ عجز الميزان التجاري لسنة 2006 حوالى 830 مليار دولار، مرتفعاً من حوالى 160 مليار دولار في سنة 1986. وهبط معدل الادخار الوطني تدريجاً من 7.7% لسنة 1990 إلى 0.2% في أيلول 2004، فإلى السلبية في سنة 2006. ويحدد معدل الادخار معدلات النمو الاقتصادي على المديين المتوسط والطويل.

(..) ولا تظهر التحليلات الاقتصادية، كما الأرقام المعلنة عمق المأزق الاقتصادي الأميركي. (..) وكما دمرت حرب فيتنام سمعة أميركا وسمعة جنرالاتها، وأدت إلى تصدع إجماع المجتمع الأميركي حول الحرب وأهدافها، وكشفت أخلاقيات الولايات المتحدة ومدى انحطاطها، فإن الحرب الإمبريالية التي تشنها الولايات المتحدة على العراق وأفغانستان بشكل خاص، تنمّي عداء شعوب العالم لها، وتدفع أميركا إلى مأزق سياسي اقتصادي اجتماعي(..) ويبدو أن العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى ركود سنة 1929 تتجمع الآن وتنفجر لتدخل الإمبريالية الأميركية في مأزق تاريخي يؤدي إلى سقوطها بسرعة كبيرة.