انهيار النظام الأوروبي 3/3

كنت قد أكدت أن البديل الوحيد الذي يمكن أن يدعم البناء الأوروبي بشكل تدريجي يتطلب الحفاظ على العملات المحلية في ارتباطها ضمن آلية سعر الصرف التي جاءت عبر بنية المفاوضات الجدية المتعلقة بأسعار الصرف والسياسات الصناعية. وهذا يحتاج إلى هيكلة تدوم حتى نضوج الثقافات السياسية التي ستشرع بتأسيس الاتحاد الأوروبي كما يجب، دون التخلص من الدول المتعددة القوميات.

كما أن منطقة اليورو ماضية إلى أزمة متوقعة تشكل تهديداً حقيقياً على وجودها، وقد جرى الاعتراف بهذا الأمر أخيراً حتى في بروكسل. حيث أنه لا يوجد أي دلالة على أن الاتحاد الأوروبي قادر على القيام بنقد ذاتي جذري يتضمن تبنيه لنظام مختلف لتنظيم العملة، وتخليه عن الليبرالية المضمنة في المعاهدات السارية المفعول.

إن ضحايا المشروع الأوروبي «أي دول الأطراف المهمشة في أوربة» ليسوا هم المسؤولون عن إفلاسه، بل على العكس من ذلك، تقع المسؤولية على عاتق دول المركز الأوروبي «أي الطبقة الحاكمة في هذه البلدان»، وفي مقدمتهم ألمانيا المنتفعة من هذا النظام. هذا يجعل من الإهانات التي وجهت إلى الشعب اليوناني على أنهم شعب كسول يحتال على الضرائب  شيئاً بغيضاً. تنسى السيدة لاغارد(1) أن المحتالين هم ملاك السفن المحميون من صندوق النقد الدولي «IMF»  وحريات العولمة.

لا أستند في أطروحتي على مناقشة الصراعات بين الدول، مع أن الأمور تبدو كأنها تحدث بهذه الطريقة. بل أستند على إدراك الصراع بين الاحتكارات المعممة من جهة (تلك القائمة فقط في دول المركز الأوروبي)، والطبقة العاملة في المراكز والأطراف الأوروبية على حد سواء، بالرغم من أن سياسة التقشف المفروضة عليهما كان لها آثر مدمر ملحوظ على العمال في دول الأطراف أكثر من المركز. لقد أشادت كل القوى السياسية الأوروبية اليمينية كما الكثيرون من القوى اليسارية بـ «النموذج الألماني» الذي عمل بشكل ناجح في ألمانيا بفضل الانصياع النسبي للعمال الألمان الذين قبلوا بمستوى أجور أقل بنسبة 30% عن الأجور في فرنسا. يعتبر هذا الانصياع إلى حد كبير هو سبب نجاح الصادرات الألمانية والنمو القوي للريع الذي استفادت منه الاحتكارات المعممة الألمانية. على الجميع أن يعي كيف فتن هذا النموذج ألباب المدافعين عن رأس المال. 

إذاً فالقادم أسوأ، حيث أنه بطريقة أو بأخرى، بشكل فجائي أو تدريجي، فإن المشروع الأوروبي سينهار بدءاً من منطقة اليورو. ومن ثم ستكون العودة إلى نقطة البداية عام 1930. سيكون لدينا منطقة واضحة محدودة بألمانيا والدول التي تتاخم حدودها الشرقية والجنوبية، وستحكم هولندا والدول الاسكندنافية بشكل مستقل، لكنها سترغب باللحاق بالركب، وستصبح بريطانيا العظمى أكثر ابتعاداً عن التقلبات السياسية للقارة بحكم أنها دولة «أطلسية»، وستغدو فرنسا معزولة (كما كانت أيام الجنرال ديغول أو فيشي)،  وستعاني اسبانيا وايطاليا من التقلبات والاهتزازات. سيكون لدينا أسوأ ما في العالمين: المجتمعات القومية الأوروبية الخاضعة لإملاءات الاحتكارات المعممة والليبرالية المعولمة المرافقة لها، هذا من جهة، ومن جهة اخرى القوى السياسية الحاكمة بموجبها التي ستكون أكثر اعتماداً، بسبب ضعفها، على ديماغوجية وغوغائية النزعات القومية. هذا النوع من السياسات الحاكمة سيضاعف فرص صعود قوى اليمين الأكثر تطرفاً ستبعث الحياة بشخصيات مثل بيلسوديسكس(2) وهوريثيوس(3) وبارونات البلطيق وموسوليني وفرانكو، هذا إن لم تكن قد بُعثت بالفعل. تظهر الأكاذيب جلية واضحة في خطابات «القوميين» من اليمين المتطرف، وذلك لأن هذه القوى السياسية أو على الأقل زعماء هذه القوى لا يكتفون بقبول الرأسمالية بشكل عام، بل يذهبون للإقرار بالشكل الوحيد الذي يمكن لها أن تأخذه وهو رأسمالية الاحتكارات المعممة. «القومية» الأصيلة اليوم هي فقط تلك صاحبة النزعة الشعبية، التي تقوم على خدمة الشعوب لا على خداعهم. ينبغي توخي الحذر اليوم عند استخدام كلمة «القومية»، وربما من الأفضل أن تستبدل بـ«أممية العمال والشعوب». فعلى النقيض، نجد أن خطاب أولئك اليمينين يقلل من موضوعة قوميتهم لمصلحة الإغراق في الشوفينية المتعصبة والعنيفة التي تُمارس ضد المهاجرين والغجر الذين يلقى باللائمة عليهم، على أنهم مصدر الكوارث. كما أنهم ينكرون على «الفقراء» حقهم في أن يشعروا بالكره تجاههم، لنراهم يحملوهم مسؤولية فقرهم ويتهمونهم باستغلال فوائد «الرعاية الاجتماعية». إن هذا الاصرار العنيد في الدفاع عن المشروع الأوروبي حتى في أوج العاصفة سيؤدي إلى طريق واحد هو : الهلاك.في البحث عن بدائل أقل إيلاماً..

هل نحن نتقدم باتجاه موجة جديدة من التحولات الاجتماعية التقدمية؟

نعم بالفعل إننا كذلك، هنالك أكثر من بديل لايزال قائماً، ولتصبح هذه البدائل الممكنة أمراً واقعاً تحتاج إلى معبر عنها. من المستحيل العودة إلى النموذج السابق من التطور الرأسمالي، في الفترة التي سبقت مركزية السيطرة الرأسمالية. لا نملك إلا أن نتوجه قدماً بمعنى أن نبدأ من المرحلة الفعلية لمركزية السيطرة الرأسمالية، آخذين بعين الاعتبار أن الوقت قد حان  لنزع الملكية ممن صادروا ملكيتنا، لا خيارات اخرى لدينا. يقال إن هذا الطرح لا يقصي النضالات الأساسية التي تتجه في هذا المنحى من مرحلة إلى اخرى، بل على العكس فإنه يتطلب تحديد هدف استراتيجي لكل مرحلة وتنفيذ تكتيكات فعالة. إن العمل دونما التفكير في تبني استراتيجيات مرحلية وتكتيكات للحركة، إنما هو عمل محكوم عليه بالفشل ليقتصر على الشعارات الطنانة السطحية والواهنة مثل شعار « تسقط الرأسمالية».

بوحي هذا الكلام، نشهد اليوم حراكاً أولياً فاعلاً في أوروبا والذي بدأت ملامحه بالتشكل، هذا الحراك الذي أخذ على عاتقه التصدي لسياسات التقشف المتبعة والمرتبطة بصعود السياسات الاستبدادية والمعادية للديمقراطية. إن الهدف من إنعاش النمو الاقتصادي مرتبط بشكل طبيعي بهذا الحراك (على الرغم من غموض هذا المصطلح عند الحديث عن آليات ووسائل تطبيق هذا الانعاش في النمو).

ولكن يجب أن نكون مدركين أن هذا الحراك سيصطدم في البداية بنظام اليورو لإدارة العملة المُشكل من البنك المركزي الأوروبي « ECB »، لذلك أعتقد أنه لا يوجد أي امكانية لتفادي «التخلي عن اليورو» من خلال استعادة السيادة النقدية للدول الأوروبية. ومن ثم سيفتح الباب أمام المناورات التي تتطلب اجراء مفاوضات بين الشركاء الأوروبيين وإعادة النظر في النصوص القانونية المُشكلة للمؤسسات الأوروبية. وعندئذٍ فقط يمكن أن تؤخذ الاجراءات الضرورية  لتأميم الاحتكارات. أتصور على سبيل المثال حدوث فجوة في الوظائف المصرفية، بالإضافة إلى اجراءات تأميم حاسمة للمصارف المأزومة؛ والتخفيف من قبضة الاحتكارات على قطاعات الأعمال والزراعة الصغيرة والمتوسطة؛ واعتماد قانون الضريبة التصاعدية؛ ومصادرة أملاك ومرافق الشركات الهاربة لمصلحة عمال هذه الشركات والحكومات المحلية؛ وتنويع الشراكة التجارية  في القطاعات الصناعية والمالية والتجارية عبر مفاوضات مفتوحة مع الدول الناشئة في الجنوب.. إلخ. كل هذه الاجراءات تتطلب التأكيد على السيادة الاقتصادية الوطنية، وبالتالي تتطلب الخروج على السلطات الأوروبية التي تمنع هذه الاجراءات. من الواضح بالنسبة لي أن الظروف السياسية التي تسمح بمثل هذه التحركات لن تتكون في وقت واحد في كل أنحاء الاتحاد الأوروبي. لن يكون هناك معجزة كهذه، لذلك علينا البدء حين نستطيع في دولة واحدة أو عدة دول. ما زلت مقتنعاً أنه حالما تبدأ هذه العملية بشق طريقها ستنتشر وتكبر بسرعة ككرة الثلج.  

إن القوى السياسية التي تعمل في خدمة الاحتكارات المعممة تقف في وجه هذه الاقتراحات التي ستحرمهم من امتيازاتهم. إن الخطاب القائل «إن إنعاش النمو بجعل الجميع أكثر تنافسية مع احترام انفتاح وشفافية الأسواق» ليس خطاب أنجيلا ميركل وحدها، بل يشابهه خطاب عدوها الاشتراكي- الديموقراطي ورئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي. ولكن يجب أن يكون معلوماً أن لا وجود للأسواق «المنفتحة والشفافة». إن الأسواق غامضة بطبيعتها، وهي خاضعة للصراعات التجارية للاحتكارات. إننا نتعامل مع خطاب ماكر يجب علينا شجبه. إن محاولة تحسين وتطوير سيطرة الأسواق بعد القبول بها بالمبدأ (من خلال طلب قوانين لتنظيمها) لن يقودنا إلى شيء فعال ومثمر. كأن نطلب من الاحتكارات المعممة أن تناضل ضد مصالحها الذاتية، إنهم يعرفون كيف يوقفوا العمل بالقوانين المنظمة التي يفترض أنها مفروضة عليهم.

لم يتميز القرن العشرون فقط بحروب العنف التي لا سابق لها والناتجة  في غالبها عن الصراع بين الدول الامبريالية المتعددة آنذاك، بل تميز أيضاً بصعود هائل للحركات الثورية لشعوب ودول الأطراف بالنسبة للرأسمالية في ذلك الوقت. لقد أجرت هذه الثورات تحولاً بخطاً سريعة في كل من روسيا وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وبالتالي اشترطت قيام أكبر عامل فعال  في التحول على مستوى العالم، إلا أنها لم تلق إلا صدى   ضعيفاً، في أحسن الأحوال، في مركز النظام الامبريالي. لقد حافظت القوى الرجعية الامبريالية على سطوتها السياسية على المجتمعات التي أصبحت الثالوث المكون للإمبريالية، سامحة لهم باتباع سياستها المتمثلة بـ«الاحتواء» ومن ثم «التراجع»، تلك كانت الموجة الأولى من نضالات التحرر الانساني.

لقد كان الخلل في الأممية عبر العمال والشعوب في مطلع القرن العشرين حدثاً درامياً مزدوجاً، فمن جهة أصيبت الحركات التقدمية التي بدأت في الأطراف بالإنهاك (التجربة الأولى ذات الطابع الاشتراكي والانتقال من معاداة الإمبريالية الليبرالية إلى الليبرالية الاجتماعية). ومن جهة اخرى فإن الحركات الاشتراكية الأوروبية ذهبت الى المعسكر الرأسمالي-الإمبريالي مع انتقال تدريجي من الاشتراكية الديمقراطية الى الليبرالية الاجتماعية. إلا أن الانتصار الذي حققته الرأسمالية (أي الاحتكارات المعممة) سيتبين لنا أنه لن يدوم فترة طويلة (1980-2008). إن النضال الاجتماعي والديمقراطي يأخذ مكانه في انحاء العالم، كما في بعض السياسات المتبعة في الدول الناشئة، وهذا يضع نظام هيمنة الاحتكارات المعممة موضع تساؤل، ويمهد الطريق لموجة ثانية من التحولات والانقلابات العالمية.

إن هذه النضالات والصراعات تشمل كل المجتمعات في العالم، في الشمال كما في الجنوب. والنظام الرأسمالي المعاصر، في حفاظه على سلطته، نراه مجبراً للهجوم بوقت واحد على كل من دول وشعوب وعمال الجنوب (ليسلب مواردها الطبيعية ومقدرات الطبقة العاملة فيها)، وكذلك الأمر بالنسبة للطبقة العاملة في الشمال المجبرة على منافسة أقرانها في الجنوب. إذاً لقد تكونت الظروف الموضوعية لتقارب النضال العالمي، ولكن يبقى هنالك تفاوت ينبغي تخطيه بين تشكل هذه الظروف الموضوعية إلى تنشيطها عبر قوى التغيير الاجتماعية والذاتية. لا نيّة لدينا لتسوية هذه المسألة بعبارات كبيرة وسطحية فارغة. إن الدراسة العميقة للصراعات بين الدول الناشئة والامبريالية وربطها بالمطالب الاجتماعية والديمقراطية للطبقة العاملة في الدول المعنية، والدراسة العميقة للحركات الثورية الصاعدة في دول الجنوب وامكانية تطورها، والدراسة العميقة لكفاح الشعوب في أوروبا  وأمريكا. كل هذا يشكل شرطاً مسبقاً لا فرار منه للشروع في مناقشات مثمرة حول «الآفاق المستقبلية الممكنة».

تبقى القضية أنه لا يوجد في الافق حركة واعدة بشكل واضح لتجديد الأممية. هل ستكون الموجة الثانية من النضال للتغير في العالم مجددة للموجة الأولى؟ فيما يتعلق بأوروبا التي هي موضوع تأملاتنا في الوقت الحاضر، فإن موضوعة معاداة الامبريالية لا تزال غائبة عن وعي العمال المعنيين بالنضال، كما هي غائبة عن استراتيجياتهم التي يطورونها، إن وجدت. أؤكد في ختام تأملاتي على أن أوروبا تُشاهد من الخارج بترقب كبير..

1-كريستين لاغارد: رئيسة صندوق النقد الدولي.

2-جوزيف بيلسودسكي: (1867-1935) رجل دولة بولندي، ووزير الحرب آنذاك، قام بقمع الحركة اليسارية.

3-ميكلوس هورثي: (1868 - 1957 ) حليف هتلر، ألحق المجر بمحور روما برلين طوكيو، وكان مسؤولاً عن مقتل آلاف المجريين.