الصين وبلاد المتوسط حدود الهيمنة الأمريكية
إعداد: رنا مقداد إعداد: رنا مقداد

الصين وبلاد المتوسط حدود الهيمنة الأمريكية

لا تتضح العلاقة بين القفزة التي تشهدها الصين منذ أواخر القرن العشرين، والحركات الشعبية العربية التي انطلقت مع بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، إلا من خلال النظر إليهما من زاوية النظام الدولي الجديد وموازين القوى الدولية الجديدة. فإن نجحت الحركات الشعبية في تحقيق المطالب الجوهرية لشعوب المنطقة، فستكون حجر الأساس لنهضة تلك المنطقة، التي ستشكل مع غيرها من الحراكات في العالم، عالماً أكثر توازناً، ومتعدد الأقطاب، سيحد من الهيمنة والتغول الغربي في الشرق والبلدان النامية.

يكمن السبب الرئيسي الذي جعل النهضة الاقتصادية الصينية تحدث كل هذا التغيير في الاقتصاد العالمي- وفي الوزن السياسي الدولي للصين، في استنادها إلى أسس السيادة والندية واستقلالية القرار التي رسخت في حقبة القائد الصيني، ماو تسي دونغ، عبر إنهاء الاتفاقيات «المذلة» وغير العادلة كلها مع الغرب، وإلغاء الامتيازات التي حصلت عليها الدول الغربية، إما بالقوة أو عبر تواطؤ الحكومات الصينية الحليفة السابقة.

بقلم: صحيفة «الشعب» الصينية

عن طريق ما سبق، تمكنت الصين من صياغة نموذج تنموي خاص، يفتح لها أفاقاً استراتيجية واسعة، ويقوي من وزنها الدولي المستقل بذاته لا كتابع، وهذا ما أخفقت فيه الدول الآسيوية الأخرى، التي استدرجتها «الفرص الليبرالية» للوقوع في التبعية للأنظمة الغربية.
شعوب العالم: وحدة الهدف
من جانبها، كانت التحركات الشعبية في العالم العربي، في جوهرها، انتفاضات في وجه الهيمنة الغربية، لأن تلك الأخيرة هي من رعى فعلياً الحكومات العربية الاستبدادية والفاسدة. ورغم محاولة الغرب، و«النخب» العربية المقربة منه، اختزال تلك الانتفاضات في حدود المطالب «الديمقراطية» فقط، إلا أن ما كشف عنه المساران التونسي والمصري، اللذان لم يشهدا تدخلاً أجنبياً عسكرياً، هو أن الهاجس الأول لشعبي هذين البلدين، هو العامل الذي أراد الغرب و«نخبه» التغاضي عنه، وهو إنهاء الهيمنة الغربية، وتعزيز السيادة الوطنية بأشكالها كلها.
يمكن اختزال ما ذكرناه سابقاً، في أن الانتفاضات العربية، التي أطاحت أو لا تزال تطيح بحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، قد عبرت جلياً عن حدود موضوعية تكابدها الهيمنة الأمريكية ووضع انفرادها في زعامة العالم على المحك، خصوصاً في ظل النمو الاقتصادي السريع الذي تشهده الصين، والذي ترى فيه الولايات المتحدة تهديداً لزعامتها العالمية، ما دفع بالإدارة الأمريكية إلى نقل مركز ثقلها الاستراتيجي العسكري إلى شرق آسيا والمحيط الهادئ. إلا أنه واهم من يعتقد أن الولايات المتحدة ستترك المنطقة العربية طليقة بالكامل، بل إن تلك المنطقة ذاتها سيشملها التعديل الأمريكي على الاستراتيجية العالمية الخاصة بالولايات المتحدة.
استراتيجية انعاش الهيمنة
قد تساعدنا العودة إلى التاريخ المعاصر للسياسة الخارجية الأمريكية في كل من المنطقة العربية وجنوب شرق آسيا على فهم التغيير الذي قامت به الولايات المتحدة على استراتيجيتها في هاتين المنطقتين خلال الفترة الأخيرة. وإذا تأملنا جيداً في الاستراتيجية الأمريكية في جنوب شرق آسيا والمنطقة العربية خلال الأربعين عاماً الماضية، سنجد تشابهاً كبيراً بين الأمس واليوم، بل سنرى أن التاريخ يعيد نفسه لكن بصورة عكسية.
وفي الوقت الذي تركزت فيه الاستراتيجية العسكرية الأمريكية في المنطقة العربية ومحيطها، دخلت الولايات المتحدة في «عهود سلام» مع آسيا، بعد أن زرعت قواعدها العسكرية في غالبية الدول الشرق آسيوية في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية وفي أثناء الحرب الكورية، على غرار قواعدها في اليابان، وكوريا الجنوبية، والفليبين.
في هذه الفترة، بنت الولايات المتحدة سياستها الخارجية في آسيا على أساس القوة الناعمة، حيث حصرت علاقاتها مع الصين في الجانب الاقتصادي، واحتفظ كل طرف بمفاهيمه السياسية لنفسه، في حين اعتمدت سياسة العقوبات الاقتصادية مع كوريا الشمالية. أما بقية الدول الآسيوية، فإلى جانب تشييد القواعد العسكرية فيها، نجحت الولايات المتحدة في احتوائها اقتصادياً وسياسياً، ودعمت القوى الليبرالية الاقتصادية فيها، حتى أصبحت دول مثل كوريا الجنوبية، واليابان، وسنغافورة، والفليبين، دول محسوبة بالكامل على الأنظمة الغربية، وأحد مكونات القطب الأوحد الذي تتزعمه الولايات المتحدة، وحتى فرانسيس فوكوياما (ياباني الأصل) صاحب فكرة «نهاية التاريخ»، فقد صنف هذه الدول ضمن الدول التي شهدت نهاية التاريخ، وعمتها القيم الغربية.
عالم متعدد الأقطاب: حاجة بشرية
يتمثل الشطر الثاني من الاستراتيجية الأمريكية لإحياء هيمنتها على العالم، في تحويل أولوية استراتيجيتها العسكرية إلى شرق آسيا والمحيط الهادي، وقد صرح القادة الأمريكيون أنفسهم أن هذا التغيير الاستراتيجي يهدف إلى كبح النهوض الصيني، واستعادة المكانة الأمريكية في شرق آسيا والمحيط الهادي. وحينما صرحت هيلاري كلنتون أن بلادها قد انشغلت في «محاربة الإرهاب»، وغفلت عن النمو الصيني الذي أصبح يهدد الزعامة الأمريكية، هي في الحقيقة لم تتحدث عن الغفلة بأتم معنى للكلمة، ذلك أن الولايات المتحدة لم تترك الصين وشأنها أثناء انشغالها بالمنطقة العربية، بل ظلت دائماً، ولا سيما في السنوات الأخيرة، تحارب الصين تجارياً، وتمارس عليها الضغط من خلال سيطرتها على المؤسسات المالية الدولية، وتعارض أن تحصل الصين على حصتها في النفوذ والقرار داخل المؤسسات الدولية، بما يعكس حجم الاقتصاد الصيني ووزنه داخل الاقتصاد العالمي.
لذا، عندما قالت الإدارة الأمريكية إنها قد غفلت عن الصين خلال العقود الأخيرة، فهي تقصد تأخرها في تحويل الاستراتيجية العسكرية نحو الصين، خاصة وأن الولايات المتحدة قد اكتسبت خبرة كبيرة في الشرق الأوسط في كيفية الوقيعة بين الدول، وإجهاض كل مخطط للنمو والتطور خارج إطار الرضى الأمريكي. لذلك، تعود الولايات المتحدة اليوم إلى شرق آسيا، واضعة في ذهنها هذه الاعتبارات كلها، وعازمة على أن تطبقها على الصين، مستفيدة من علاقات التحالف التاريخية التي تربطها بعدد من الدول المجاورة للصين، وعلاقاتها الوطيدة مع أطراف بؤر التوتر في الصين.
الصين من جانبها، ترى أن من أحد أهم أسباب عودة الولايات المتحدة إلى آسيا، هو الازدهار الذي تشهده القارة، وأهمية الاقتصادات الآسيوية في إعادة الانتعاش للولايات المتحدة. ولو كانت الولايات المتحدة تقبل بعلاقات الشراكة القائمة على المصلحة المشتركة، لما وجدنا القواعد العسكرية الأمريكية تنتشر في140 دولة (من جملة 193)، ولما وجدناها تمسك بزمام المؤسسات الدولية جميعها، ولما وجدنا شركاتها العملاقة تتحكم في أنفاس الاقتصاد العالمي وتنهب ثروات «العالم الثالث». وهذا كفيل بأن يبرهن على أن الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة لم تبن يوماً على مبدأ الشراكة، وإنما على جموح الرغبة في الهيمنة. أما المنطقة العربية والصين، فهما على حد سواء، في حاجة إلى عالم متعدد الأقطاب، يفسح لهما المجال للنمو مستقلان لا تابعان، ليسهما في إرساء توازن يكون في صالح البشرية جمعاء.