منظمة التجارة العالمية: نواة الفوضى الرأسمالية
بقلم: كينت جونز بقلم: كينت جونز

منظمة التجارة العالمية: نواة الفوضى الرأسمالية

تمثِّل منظمة التجارة العالمية مصالح الطبقة الرأسمالية، وهي نتاج الدروس التي تعلمتها المنظمة لحماية النظام الرأسمالي. لكن الرأسمالية هي التي تتحمل مسؤولية ذلك، لا منظمة التجارة العالمية فقط. 

رغم اعتبار منظمة التجارة العالمية في وعي الجميع وجهاً مكروهاً للعولمة، وتعتبر كعصابة سرية توجه التحركات الخفية في عالم المال، حيث تمثِّل اتجاهاً قديماً- قدم الرأسمالية نفسها، فإنها استمرار لسياسات قديمة تحت اسم جديد. إذ ترتبط منظمة التجارة العالمية والبنية التحتية العالمية التابعة لها بشكلٍ مباشر بالدروس التي «تعلمتها» طوال تاريخ الحروب والكوارث وهي أن السوق قد ألحق الأذى بالجنس البشري في القرن الماضي.

النشأة على أعقاب الحرب

في الثلاثينيات من القرن الماضي، اعتمدت الحكومات الوطنية على التجارة الحرة للذهب لتنظيم القيمة النسبية لعملاتها، وهيكلة العمليات التجارية الدولية. إلا أن ميل الرأسمالية تجاه الحركات غير المنسجمة والنمو الاقتصادي غير المتكافئ جعل الذهب يميل إلى التركز في أيدي حفنة من الدول (تمتلك أمريكا ما يصل إلى 60% من الذهب النقدي في العالم في نقطة واحدة)، وترك الآخرون (مثل ألمانيا) يعانون نقصاً حاداً في وسائل التجارة الدولية. هذا الخلل في السلطة التجارية أدى مباشرة إلى الظروف التي عجلت بحدوث الحرب العالمية الثانية، ودمَّر القارة الأوروبية بأكملها تقريباً.

اجتمعت القوى الرأسمالية المهيمنة بعد الحرب، عازمة على تجنب حدوث مثل هذا الوضع مرة أخرى، وعمدت لبناء آلية دولية فعالة لتمكين التجارة من التقدم بين الدول بسلاسة. حيث سعت اتفاقية «بريتن وودز»، حسب توصية ج. م. كينيز، إلى «تنظيم» تحركات رؤوس الأموال الدولية.

وبالمثل، أنشئ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بهدف «تجنب الدول المعاناة من الإفلاس الذي تحملته ألمانيا في العشرينيات من القرن الماضي». ولاح في الأفق آنذاك أن هذه المؤسسات سيتم ضمها تحت سقف منظمة التجارة الدولية، لوضع القواعد الأساسية للتحكم بالتجارة. ومع ذلك، اعترضت الولايات المتحدة على هذه المؤسسة في مؤتمر هافانا عام 1947. 

نظام غير قابل للتنفيذ

جاءت الاتفاقية العامة بشأن التعريفات الجمركية والتجارة، المعروفة بـ «الغات»، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 1948، بديلاً عن منظمة التجارة الدولية، وكانت تقوم على أجزاء لا يمكن الاعتراض عليها من ميثاق هافانا. مع مرور الوقت، ثبت أن اتفاقية «الغات» غير قابلة للتطبيق، بسبب عدم كفاية إجراءات التنفيذ، وكونها ذات قواعد غير واضحة، بالإضافة إلى صرامة وجمود أنظمة التوافق بالتراضي.

وهكذا، في جولة أوروغواي لمفاوضات «الغات» التي انتهت في عام 1993، تم الاتفاق على إنشاء بديل أكثر تفوقاً وهو منظمة التجارة العالمية. حيث جرى في جولة الأوروغواي توسع كبير في نطاق الاتفاقيات الدولية، وضمت الزراعة والخدمات والملكية الفكرية في مجال التنافس، فضلاً عن خفض حقيقي للرسوم الجمركية وإجراء المزيد من التدابير الوقائية الأخرى المسموح بها. أدى ذلك إلى زيادة فورية تقريباً في حجم التبادلات التجارية الدولية: فحسب الكتاب السنوي «يوروستات» في عام 2000، ازداد الاستثمار الخارجي لدول الاتحاد الأوروبي بنسبة 500% تقريباً بين عامي 1995-1999.

وهذا مجرد جزء بسيط من اتجاه متواصل في تطوير نظام السوق، إذ كلما تقدمت التجارة، يتطور مستوى القواعد والأسس. فالحاجة لتركيز رؤوس الأموال، وزيادة مساحة ونطاق تداول السلع في الوقت المناسب، تعني أنه يجب التغلب على مثل هذه التناقضات بين السلطات المحلية. وعادة، هذا يعني الإفراط في استخدام السلطة من خلال سلطة الدولة المركزية، وفرض مجموعة موحدة من القواعد في أنحاء المنطقة الاقتصادية بأكملها. استمر هذا الميل لتمركز رأس المال، وتبدت المشكلة نفسها في اختلافات الأنظمة التجارية بين الدول متعددة القوميات، رغم عدم وجود سلطة مركزية قوية بما فيه الكفاية لتقوم بفرض سلطتها ومعاييرها الخاصة.

التجارة: بين إنشاء القيمة

والوصول إليها

تكمن أسباب كذبة زيادة مركزة الرأسمال، أساساً، في الطرق التي يتم من خلالها استغلال العمال من الرأسماليين. عندما يتم إنتاج سلعة يقوم الرأسمالي بحساب تكلفة إنتاجها (تكلفة البضاعة التي دخلت في إنتاجها بالإضافة إلى قوة العمل)، ثم يضيف معدل ربح يتماشى، تقريباً، مع معدل الربح المتوقع من منافسيه. حيث يضاف متوسط معدل الربح هذا بغض النظر عن مقدار القيمة المضافة في عملية الإنتاج المحددة المعنية، بل من خلال إجمالي القيمة المضافة عبر العملية  الاقتصادية ككل. وهذا يعني أن الصناعات التي تحتاج كمية أكبر من العمل في البداية (أي  تضيف الكثير من القيمة) تخسر، لأن متوسط الربح تبعاً للفرق بين سعر التكلفة وسعر البيع أقل من القيمة التي تضيفها بعد الإنتاج. وذلك يعني أن يتم نقل هذه القيمة المضافة في أرباح الصناعات التي تكلف عملاً أقل. وذلك يحقق ميزة تنافسية للرأسماليين بهدف زيادة نسبة رأس المال الإنتاجي للعمل (المعروف باسم التركيب العضوي لرأس المال). 

تأتي مع هذه الزيادة امتدادات للقدرة الإنتاجية في صناعة ما، مع إمكانية أن يجري تناولها من قبل وحدات إنتاج أقل فأقل. ويتماشى مع هذه التمركز لرأس المال زيادة في طاقة النقل في المجتمع. إذ أن التقدم التكنولوجي في وسائل النقل لا يزال يجري مواكباً للقدرة الإنتاجية، مما يعني، بشكل عام، وأن تداول السلع والتجارة يمكن أن يزيد بشكل أسرع من إنتاجية المجتمع (المزيد من السلع التي تحتاج للنقل مضروباً بأسرع معدل لنقلها).

في كل فترة، يكون معدل الزيادة في التجارة أكبر من معدل الزيادة في إنتاج البضائع. وأحد التفاصيل الأكثر أهمية أن الزيادة الهائلة في التجارة في الفترة ما بين 1990-2000 ترافقت مع انخفاض إنتاج البضائع مقارنة بالفترة السابقة. هنا يمكن رؤية دور منظمة التجارة العالمية في هذه الزيادة. حيث كانت زيادة في فائض النمو المعتاد في التجارة، وبالتالي يمثل ذلك حدثاً استثنائياً. 

قد يكمن الدافع لهذه الطفرة في التجارة بالانخفاض الملحوظ في الإنتاج الحقيقي. إذ أن معدل نمو الإنتاج هو أقل من نصف المعدل في الفترة ما بين 1963-1973. تعامل الرأسماليون- المسلحون بالنظريات التي ترى أن القيمة يتم إنشاؤها بدلاً من الوصول إليها من خلال التجارة- مع التجارة كسلعة في حد ذاتها، وهم يعتقدون أنه من خلال زيادة تداول السلع سيكونون قادرين على إخراج أنفسهم من مستنقع الربحية، ودليلهم في ذلك انخفاض نمو الإنتاج. وإلى جانب هذا، تأتي مغريات استغلال الاختلافات في معدلات الربح المحلية والإقليمية، في محاولة لتحقيق أرباح عالية بشكل استثنائي.

ما يعنيه هذا فعلياً أن الرأسماليين يحاولون تمزيق بعضهم بعضاً من خلال زيادة التجارة، نتيجة لعدم قدرتهم على استغلال العمال أكثر بما يكفي. إنهم يزيدون المزاحمة بشكل فعال من خلال زيادة المنافسة التجارية، للحصول على حصة من إجمالي الإنتاج العالمي من فائض القيمة. كما يمكن ملاحظة ذلك في ازدياد المضاربة على العملات وتحركات رؤوس الأموال المالية في جميع أنحاء العالم، طالما أن هذه الأشكال من الأنشطة غير منتجة تماماً وهي مجرد إعادة توزيع الغنائم بين اللصوص.

ويمكن ملاحظة هذا الاتجاه في قرار فتح قطاع الخدمات للمنافسة الدولية. إذ تجبر برامج الضبط الهيكلي لصندوق النقد البلدان عادة على التقليل من حجم القطاع الحكومي، مما يمهد الطريق لشركات من البلدان الرأسمالية المتقدمة لتولي هذه الخدمات وحصد الأرباح من عرق العمال هناك. إنها تمثل طريقة أخرى لأخذ مصادر هامشية من فائض القيمة الدولي التي «يجب» إعادتها إلى قلب الصناعة.

التراجع للخلف

لا تزال مناطق واسعة من العالم، ومناطق «ما بعد الاستعمار» خاضعة لانخفاض قيمة عائدات المنتجات الأولية، مثل الزراعة أحادية المحصول والتعدين، إذ تجري معظم التجارة المتطورة بين مراكز التصنيع الصناعية. وتمثل أعلى خمس دول  مصدرة (الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، اليابان، كندا، الصين) 53.2% من سوق الصادرات العالمية، (وفقاً لجداول منظمة التجارة العالمية)، في حين أن أكبر أربع مستوردين يأخذون حصة 54% بين بعضهم البعض. ويستورد كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أكثر بكثير مما يصدران، وتمثل تلك سوقاً كبيراً مربحاً.

بالتأكيد، ما دام المجتمع العالمي يعتمد أولاً وقبل كل شيء على المنافسة بين مجموعات الرأسمالية للحصول على الأرباح، سيكون عرضة للفوضى الرأسمالية والمصلحة الذاتية، وسيتم إخضاع أي كائن دولي للمناورات المكيافيلية من قبل هذه المجموعات. وطالما بقيت الرأسمالية فسوف تستخدم أي مكون من مكونات العالم كأداة محتملة لأغراض الاستغلال والسرقة. الطريق الحقيقي الوحيد للمضي قدماً إلى مجتمع بشري متوازن هو من خلال إلغاء مصالح النخبة التي تستغل القطاعات الوطنية، وتكريس مصلحة الإنسان عالمياً، من الملكية المشتركة للثروة العالمية، حتى نتمكن من إنهاء الانقسامات البشعة التي خلقها نظام الملكية.