ما وراء العبودية الفكرية... إزاحة رأس المال ليس مستحيلاً
باول ستريت* باول ستريت*

ما وراء العبودية الفكرية... إزاحة رأس المال ليس مستحيلاً

لا تعد إزاحة دور رأس المال في أمريكا أمراً مرغوباً فحسب، بل هو ضروري أيضاً وأساسي لكي نتمكن من النجاة من حقبة الكوارث البيئية العميقة التي نعيشها.

إن العائق الأكبر للديمقراطية والنشاط الشعبي الفعال للصالح العام في العصر الذهبي الجديد للولايات المتحدة الأمريكية، هو حالة العجز والانعزالية التي تعيشها أعداد لا تحصى من السكان والعمال، إنه الشعور الكريه المنتشر بين الجميع الذي يسلِّم باتكال كل شخص على نفسه، يضاف إلى ذلك التسليم بانعدام أي بديل أو أي شيء يمكن فعله للنظام الحالي القائم، إنه منطق «انعدام البديل» أو «عقلية العبيد» كما يدعوها ديفيد بارساميان.

«ما يتعدى خيالاتي»

مما يقودني إلى أكثر المقالات التي قرأتها حزناً، والتي تم نشرها في أحد المواقع الأمريكية التقدمية المسمى «TomDispatch» منذ شهرين وتحت عنوان: «لم لا ينهض العاطلون عن العمل من على كراسيهم؟»، وقد استعرض كاتبه، بيتر فان بيورين، الذي سرب الكثير من الفضائح عن وزارة الخارجية الأمريكية، حالة عدم المساواة الاقتصادية، وما تبعها من حالات البطالة خلال السنين القليلة الماضية، وصرح بأن ثمانية أمريكيين وهم: «أربعة من مدراء متاجر وول مارت، واثنان إخوة في مجموعة كوتش الصناعية وبيل غيتس و وورنبافيت» قد كسبوا خلال العام الماضي، مجتمعين، أكثر مما جنى 3.6 مليون عامل أمريكي من أصحاب الحد الأدنى من الأجور، والمعدل الوسطي لرؤساء مجالس الإدارة للشركات الأمريكية الكبرى يرتفع سنوياً بمقدار 10 ملايين دولار. يعلق بيتر قائلاً: «يجني رئيس مجلس الإدارة أكثر من العامل العادي بـ 257 مرة، أي أن واحداً بالمائة من الناس يملكون ثلث ثروات البلاد!»
أضاف بيتر أيضاً، أن واحداً بالمائة من السكان يملكون أكثر مما يملكه 90 بالمائة من الناس من ثروات، وأن ستة من مدراء وولمارت يملكون أكثر مما يملك 40 بالمائة من السكان الأمريكيين، والملايين منهم لا يملكون شيئاً بل إن معظمهم لا يملك سوى الديون. وتابع الكاتب شارحاً الأسباب التي جعلت البطالة تترسخ في البنية الاقتصادية الاجتماعية الأمريكية، وأشار إلى التناقض بين الوظائف المربحة والجيدة التي ينتجها الاقتصاد الأمريكي والعدد الهائل من الأمريكيين الباحثين عن عمل لائق.
إنها ليست قصة جميلة، لكنها - كما لاحظ بيتر- تساعد في فهم سبب تحقيق كتاب «الرأسمالية في القرن الواحد والعشرين» للاقتصادي الفرنسي، توماس بيكيتي، نجاحاً منقطع النظير في الولايات المتحدة الأمريكية الربيع الماضي، والذي يبدو أن بيتر عجز عن فهمه بشكل كامل(1)، حيث أظهر الكتاب أن عدم المساواة الاجتماعية متأصلة في أساسات الرأسمالية في أمريكا، وفي أمكنة أخرى في العالم.
وفي تصرف يختصر «العبودية العقلية» في أيام «الليبرالية الجديدة»، التي تفوق الرأسمالية، جاءت الخيبة في مقالة بيتر، في فقرة استنتاجه الأخير، عندما أراد رفع الحد الأدنى للأجور في أمريكا وربما تنصيب «توماس بيكيتي كأحد مدراء وولمارت». وهذا يعني الإيمان المطلق بانعدام وجود أي بديل حقيقي لنظام الطبقات العليا والدنيا، حيث يقول:
«لا نرى في الأفق أي حلول للمشاكل الاقتصادية  للـ 99 بالمائة من الأمريكيين، بل سنصل إلى نظام إقطاعي خاص بالقرن الواحد والعشرين، حيث يعيش الثري والقوي على حساب ما تنتجه الجموع من العمال الفقراء، فمنذ زمن، عمل 99 بالمائة من الناس، تحت أمرة الإقطاعيين  الذي يحددون نمط عملهم، والآن يقوم وولمارت بفعل ذلك تماماً. بعد ذلك، عاش بعض أصحاب الحرف في أوضاع أفضل بقليل، أي أنهم ارتقوا درجة إضافية أو اثنتين على سلم النظام الإقطاعي، والآن تقوم أيضاً طبقة تكنوقراط من المبرمجين والمعلمين والمهندسين بالارتقاء من خلال إمكانياتهم المحدودة باتجاه الطبقة الوسطى، إن حالة غياب التغيير في أمريكا عصية على التخيل بالنسبة لي، هذا هو مستقبلي وربما مستقبلكم أنتم».
لم يقل بيتر بأن التغيير التقدمي مستبعد، بل قال بأنه يفوق قدرته على التخيل، ربما كان يتوجب عليه ترك كتاب بيكيتي السميك والتقاط كتاب أكثر راديكالية وتبصراً منه، ولدي بعض الاقتراحات له.

الإصلاحات

يقول تشومسكي في كتابه «الدول الفاشلة»: «يسمع الكثير منا عن تذمر النقاد حول ما هو خاطئ، لكنهم لا يقدمون أي حل»، وأضاف: «هناك مسمى آخر لهذا التصرف: إنهم يقدمون حلولاً لا تعجبني».
وكما لاحظ تشومسكي، لا يوجد قصور في الحلول الجيدة التقدمية والسياسات والأفكار في مواجهة سيطرة النخب الاقتصادية والشركات الكبرى،هناك لائحة من المقترحات تتضمن: قانون «توبين» لضرائب المناقلات المصرفية، وقانون «الخيار الحر للموظفين» الذي يمكن أن يعيد تشريع التنظيم النقابي في البلاد، وزيادات دورية وجدية في الحد الأدنى للأجور، وزيادة تنظيم، وتخفيض حجم، أو حتى تأميم المراكز الاقتصادية الكبرى، وتحويل مسألة التوظيف إلى سياسة فيدرالية، وأيام عمل أقل في الأسبوع، وإلغاء التمويل الخاص في الانتخابات العامة والتمويل العمومي الكامل لها، والعمل بنظام ضرائب تقدمي جدي، ونظام تأمين صحي يستند على داعم مالي وحيد، وإعادة التفاوض حول اتفاقية أمريكا الشمالية للتجارة الحرة وغيرها من صفقات «التجارة الحرة» لتتضمن ضمانات للعمال وحماية للبيئة، وإجراءات محلية ودولية للحد من انبعاث الكربون، وبرامج توظيف صديقة للبيئة، وشبكة أمان اجتماعية أكثر شمولاً، والتحول من انتشار السجون والحرب على المخدرات وتأسيس امبراطورية عسكرية إلى الاستثمار في المدارس وبرامج مكافحة الفقر والتنمية البشرية، وصيانة الحريات المدنية عن طريق نقض قانون «التصريح بالدفاع القومي» وقانون «الوطنية» وغيرها من الإجراءات القمعية.
لا يوجد مطلب أكثر إلحاحاً من الدعوة لبرامج توظيف عامة واسعة النطاق وصديقة للبيئة، مرتبطة ببرامج أوسع لتحويل الاقتصاد الأمريكي إلى حالة المحافظة المستدامة على البيئة، والذي يساهم مع إجراءات أخرى في تخفيض اعتمادنا على الوقود، ويمكنني ذكر المزيد من الاقتراحات.

أمريكا ما بعد الرأسمالية

يقول الكاتبان ريتشارد ويلكنسون وكايت بيكيت، في كتابهما «مستوى الروح: لماذا تجعل المساواة المجتمعات أقوى»: «في هذه المرحلة، يبدو خلق الإرادة السياسية لزيادة المساواة في المجتمعات أكثر أهمية من التعويل على مجموعة محددة من السياسات المخصصة للتقليل من حالة عدم المساواة»، وأضافا: «إن الإرادة السياسية تعتمد على تطوير وسائل التوجه إلى مجتمع أفضل، وهي سبل قابلة للتحقيق ومليئة بالتحفيز».
لا يوجد نقص في الأفكار حول تحول راديكالي وديمقراطي إلى ما يسمى «أمريكا ما بعد الرأسمالية» وهو عنوان كتاب مهم للاقتصادي في جامعة ميريلاند، جار ألبيروفيتز، حيث اقترح منح العمال والمجتمعات الفرصة والإدارة الذاتية عن طريق توسيع ودعم برامج ملكية الأسهم للموظفين، وغيرها من البرامج والسياسات (تتضمن معدلات ضرائب أكثر تقدمية، و25 ساعة عمل في الاسبوع)، والتي صممت لاستبدال البلوتوقراطية الحالية بما يسمى الأمة الجمعية.
أنشأ ألبيروفيتز تجمع جامعة ميريلاند للديمقراطية، والذي يركز على بناء الثروات في المجتمعات غن طريق خلق تعاونيات العمال والشركات المملوكة من قبل العمال، التي تعكس مشاركة العمال والمجتمعات في تصميم وإنتاج الشركات الاقتصادية الكبرى. تجسد تعاونية ايفرغرين في كليفلاند في ولاية أوهايو هذا النموذج، والتي تستند على تعاونية موندراغون الإسبانية الأكثر شهرة، وهي اندماج بين عدة تعاونيات مملوكة من قبل هيئات عمالية، توظف ما يقارب 85500 شخصاً في مجالات متنوعة تتراوح بين تقنيات الطبابة وصولاً لتصنيع الأدوات المنزلية. لقد أصبح اتحاد عمال الفولاذ راعياً قوياً لملكية العمال، وهو يعمل لتطوير نماذج مشابه لتعاونيات موندراغون. ويظن ألبيروفيتز بأن التجارب المشابهة لتلك التعاونيات هي بذرة مستقبل اقتصاد ما بعد الرأسمالية.
وفي كتابه «ما بعد الرأسمالية» في العام 2001 وأعمال أخرى، قدم بروفيسور الهندسة في معهد «ماساتشوستس» للتقنية، سيمور ميلمان، اقتراحاً «مثالياً» آخر يتلخص ببناء نظام إدارة ذاتية للعمال لا يعتمد على السوق. ومن المهم أيضاً الاطلاع على كتاب الاقتصادي اليساري، ريك وولف، المسمى «الديمقراطية جارية: علاج للرأسمالية»، والذي مزج فيه التحليل الماركسي للأزمة الاقتصادية مع الدعوة لبناء مجمعات تحت إدارة العمال، وهناك كتاب «ما بعد الرسمالية» للكاتب، ديفيد شوارتز، الذي يدعو فيه إلى الإدارة الذاتية للعمال بالتزامن مع تأميم رأس المال الذي ينضوي تحتها، وكتاب مايكل ليبوويتز بعنوان «البديل الاشتراكي» المستوحى من سياسات أمريكا اللاتينية اليسارية لتطوير رؤية اشتراكية ديمقراطية تشاركية، بالإضافة لكتاب «عدو الطبيعة» للكاتب جول كوفيل، والذي يطرح فيه حلاً للأزمة البيئية الحالية عن طريق التخلص من سطوة الأفراد والشركات لمصادر الكوكب. يضاف إلى ذلك كتابات مايكل ألبرت وأحاديثه في الاقتصاد التشاركي، والمتأثر إلى حد ما بـ«المجلس الشيوعي» والداعين إليه، مثل الماركسي التحرري أنطوان بانيكك، ودعا في كتابه «الاقتصاد التشاركي: الحياة بعد الرأسمالية» في العام 2003 إلى نموذج مرن لاقتصاد ديمقراطي إلى حد كبير يتم فيه تنظيم العمل والمجتمع حول العمال ومجالس المستهلكين وهي مراكز تشاركية غنية تعمل على مشاركة العمال والمجتمع ككل في صياغة قرارات تخصيص المصادر وكيفية الإنتاج وماهيته وكيفية توزيع مهام العمل والدخل.
هناك مجلد مستوحى من حركة «احتلوا» تم نشره من قبل دار «هاربر كولنز» الأمريكية في العام 2014 يدعى: «تخيل العيش في أمريكا اشتراكية»، يتضمن مقالات من نخبة المثقفين والناشطين ويحوي تجارب عملية حول جوانب متعددة من الحياة والسياسة الأمريكية، مثل: البيئة، محيط العمل، التمويل /الاستثمار، العدالة الجنائية، الجندرية، الهجرة، الرفاهية الاجتماعية، الغذاء، السكن، الرعاية الصحية والدوائية، التعليم، الفن، العلم، الإعلام، والروحانيات والتي يمكن عيشها وتنظيمها عبر نسخة أمريكية من الديمقراطية الاشتراكية.
تخيل النظرة الاستشرافية في كتاب «تخيل»، وابتعد عن كتاب بيكيتي الكبير والممل والمملوء بالبيانات والأحداث التاريخية التي ترجعك إلى الوراء والتي تعطيك القليل من الحلول العصرية وتقصر في حل المشاكل الحالية، الكتاب الذي فاجأ الجميع كأفضل الكتب مبيعاً في العام 2014.

لن نخسر شيئاً إن آمنا بذلك

لا تعد إزاحة دور رأس المال في أمريكا أمراً مرغوباً فحسب، بل هو ضروري أيضاً وأساسي لكي نتمكن من النجاة من حقبة الكوارث البيئية العميقة التي نعيشها، لقد ترك جويل كوفيل ملاحظته في كتاب «تخيل» وقال بأن الرأسمالية مرتكزة على «التوسع الدائم للمنتوج الاقتصادي»، و«تحويل كل شيء ممكن (كالماء الذي نشربه والهواء الذي نتنفسه والتربة التي نزرعها) إلى قيمة استهلاكية» وأضاف: «الأرض التي نعيش عليها فانية، والنظم البيئية تطورت للتكيف مع هذه الحقيقة، وبالتالي فإن أي نظام مبني على النمو اللامتناهي سيدمر  تماسك النظم البيئية التي تعتمد عليها جميع أشكال الحياة».
بالطبع، لا يوجد ضمان للنجاح، لكن يتوجب علينا النضال، كما قال ماريو سافيو في العام 1994: «علينا أن نكون مستعدين، وبالاستناد على بصيرتنا الأخلاقية، للنضال حتى لو لم نكن نعلم ما الذي سنفوز به». ربما نمتلك 20 بالمائة فقط، أو حتى 1 بالمائة من فرص النجاح، أو من فرص خلق أمة عادلة ديمقراطية مستدامة، خلق عالم لا يتم التحكم به واحتلاله من قبل «ديكتاتورية المال غير المنتخبة». بينما تنخفِض احتمالات النجاح إلى الصفر عند عدم الإيمان بجدوى النضال الجمعي لمستقبل ديمقراطي لائق بعيداً عن الاضطهاد البلوتوقراطي.
لن نخسر شيئاً إن آمنا بذلك، وبعدم إيماننا نخسر كل شيء، حرفياً كل شيء، إن أخذنا بعين الاعتبار التأثيرات المناخية الحالية، كما قال نعوم تشومسكي «أننا نواجه بحق مسار فناء الأنواع للمرة الأولى في التاريخ البشري». وكما صاغها الفيلسوف الماركسي، استيفان ميسزاروس، في العام 2001: «الوقت ينفذ منا، الحقيقة المزعجة تتلخص بعدم وجود مستقبل للبشرية، إن لم يكن هناك مستقبل للحركات الجماعية الراديكالية في زماننا هذا».
لا مكان لنظرية «طبخ الضفادع» على نار هادئة كي لا تشعر بقرب موتها، وليس الأمر شبيها بمعرفة المستقبل عن طريق كرة زجاجية، نحن مجبرون على تخيل عالم ديمقراطي وعادل بعيداً عن «إقطاعية القرن الواحد والعشرين» التي أتحفنا بها فان بيورين، والتي هي «رأسمالية» في طبيعة الحال، ومن بعدها علينا أن نناضل من أجل العالم، الجميع جاهز للنضال من أجل انتصارك وانتصار العالم.

*باول ستريت: كاتب له العديد من المساهمات، منها: «القاعدة: الـ 1% ضد الديمقراطية»، و«ماهي مشكلة الرأسمالية؟ تخيل العيش في أميركا الاشتراكية».

هوامش:

1. إن تشخيص فان بيورين لأطروحة بيكيتي كـ«مد يرتفع ليحمل كل القوارب» يعاكس تماماً الرابط التاريخي الأساسي الذي يقصده الكاتب بين معدلات عدم المساواة المرتفعة ومايعرف بـ«النمو البطيء». كما أن فان بيورين أبدى إعجابه بإلقاء جزء من المسؤولية عن عدم المساوة التي نعيشها على العمال أنفسهم بسبب «سحق النقابات العمالية»، لكن بيكيتي يتجاهل في الحقيقة القضايا النقابية والصراع بين العمال ورأس المال (أو الصراع الطبقي كما يقول ماركس) إلى درجة مثيرة للاهتمام تطرح الكثير من التساؤلات.