العمل عن بعد خيار إيجابي بالعادة لكن سورية استثناء

العمل عن بعد خيار إيجابي بالعادة لكن سورية استثناء

ظهر مصطلح «العمل عن بُعد» منذ سبعينيات القرن العشرين، أي منذ بدايات العصر الرقمي، وقد استُخدم للإشارة للعمل من مسافات بعيدة عن مقر العمل عبر الاتصالات السلكية واللاسلكية أو الحاسب الشخصي.

وانتشر هذا النمط من العمل بشكل كبير خاصة في حالة الطوارئ التي فرضها انتشار فيروس «كورونا» حيث أعلنت الكثير من الشركات العالمية والمحلية تبني نظام العمل عن بُعد لتحافظ على صحة موظفيها وتمنع اختلاطهم في أماكن العمل، وتضمن استمرارية وتيرة العمل بالشكل المناسب كشركات الاتصالات في سورية (إم تي إن، سيريتل) بمحاولة لتحقيق الأهداف وتقليل النفقات والحد من خسائر الإغلاق.
وفي سياق تطورها الطبيعي أثبتت التجربة نجاحها عالمياً من ناحية زيادة الإنتاج والحد من إنفاق رب العمل على المكاتب والتوسع فيها وخفض تكاليف البنية التحتية وغيرها من حاجيات مكان العمل، كما أنها خفضت الوقت اللازم للعمال للوصول لمكان العمل وتكاليف النقل والمواصلات، وأصبحت في بعض المهن ساعات العمل مرنة وبدون قيود.
ولكن في سورية حيث لم تكن تجربة العمل عن بعد وليدة الحاجة الطبيعية والتطور في بنية بيئة العمل، بل كانت وليدة الأزمة المعاشية وتقطع أوصال البلاد وصعوبة التنقل وسوء حال المواصلات وكذلك ارتفاع تكاليف العملية الإنتاجية من جانب رب العمل من نقل الموظفين والكهرباء اللازمة لتشغيل المكاتب وغيرها.
فهل ما زال العمل عن بعد فرصة وتجربة متطورة؟ أو غدا باباً إضافياً للفساد وشرعنة استغلال العامل؟

حقوق باتت واجبات أثقلت كاهل العامل السوري

إن عدم جاهزية المؤسسات والشركات في سورية للتحول إلى نظام العمل عن بُعد، بدءاً من غياب القوانين والتشريعات المحددة والناظمة له ووصولاً إلى عدم توفر البرامج والأنشطة الداعمة لتطبيقه، ضعف مرونة الإجراءات الإدارية بل وترهلها، إلى جانب صعوبة الحفاظ على أمن المعلومات، فضلاً عن غياب الدعم الفني والتقني الكافي، واختلاف درجة وضوح المفهوم بين الموظفين، أضف إلى ذلك الصعوبة بتوفير البنية التحتية المناسبة (كهرباء، إنترنت....) التي باتت من واجبات العامل، عدا عن غياب تعويض الاهتلاك الحاصل بمعداته الخاصة المستخدمة لأداء العمل المطلوب سواء أكانت حاسباً أو معدات مكتبية أو حتى كاميرات وإضاءة.
في حين كان من واجبات رب العمل توفير بيئة العمل المناسبة للعامل لأداء مهامه حيث كان لا بد في مكاتب العمل التقليدي وجود تقنيات وأجهزة متقدمة وموثوقة لتجنب أية مشكلات خلال العمل، تيار كهربائي متواصل ومصادر طاقة بديلة أضف إليه توافر الإنترنت بسرعة جيدة مع وجود فريق فني على مستوى عالٍ يضمن صيانة وإصلاح كافة المعدات اللازمة للعمل، بالإضافة إلى أنه من البديهي وجود المكتب النظيف والمريح وعلى الأقل عمال نظافة وبوفيه.
تحولت واجبات رب العمل هذه إلى واجبات على العامل وفي حين كان بعض هذه الحقوق تعتبر ميزات كتقديم المشروبات أثناء العمل في المكاتب التقليدية تم التخلص منها بحجة خفض النفقات فأصبح على العامل إيجاد بيئة العمل المناسبة، حاسبه الشخصي، مصادر الطاقة البديلة لمواجهة التقنين الجائر، باقات إنترنت مكلفة وحجز حيز من مساحة منزله الخاص لتحويلها إلى مكتب أو شبه مكتب حيث أصبح لا بد من اقحام بيئة العمل بكل مشكلاتها داخل بيئة المنزل الذي يفترض أنه مكان الراحة للعامل. وعمال آخرون آثروا الجلوس في المقاهي لعلهم يجدون بعضاً من حقوقهم الطبيعية في العمل كالكهرباء والإنترنت ولكن على نفقتهم وليس على نفقة رب العمل.
عانى العمال عن بعد من بطء أو انقطاع في خدمة الإنترنت وغياب التيار الكهربائي، إضافة إلى تعطل الأجهزة وغيرها من المشكلات التي بات من واجب العامل حلها والتعامل معها ليخلق بيئة عمل منزلية مناسبة على مسؤوليته وحسابه، هذا ولم نتحدث بعد عن الجانب الصحي والتكاليف الإضافية التي غدت تقاسم العامل رزقته من عاملي تصليح للأعطال التقنية والبرمجية واردة الحدوث.
فانتقل العامل السوري المفقر من استغلال رب عمل مباشر لاستغلال من نوع آخر أشد وطأة وكل ذلك ع حسابه ومن أجره.

فرصة بالدولار أم استنزاف واستغلال

في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، انتشار البطالة وواقع فرص العمل الميؤوس منه بات العمل عن بعد هو الخيار الأمثل للعديد من السوريين الذين أقبلوا على العمل عن بعد لشركات في الخارج بأجر شهري هو الأقل في المنطقة في حين يرى العامل السوري العائد ممتازاً في ظل تدهور قيمة الليرة مقابل أيّ من العملات الأجنبية إلا أنه في الواقع لا يصل إلى ربع الثمن الحقيقي لهذه الخدمات لو حصلت عليها الشركات من موظفين محليين أو أجانب يعيشون في بلدانهم من ناحية.
أما من الناحية الأخرى فقد خلق بيئة منافسة غير عادلة، فمع غياب العامل الجغرافي باتت المنافسة إقليمية لا بل دولية مما أسهم بقبول العامل بالعمل لساعات طويلة مقابل أجرة زهيدة جداً. استغلال واضح لساعات لتصل لأكثر من 15 ساعة يومياً، وفي أوقات متفرقة، فيتحول المواطن من عامل لدى الشركة بدوام ٨ ساعات يومياً إلى عبد مجبر على العمل في أي وقت وخلال ساعات غير محددة تبعاً للظروف والمستجدات على حساب راحته وعائلته وبأجر هو الأرخص في المنطقة، ليس هذا فقط بل تجاوز الاستغلال الحد المقبول مع ظهور شركات وهمية عانى العديد من الشباب العامل من احتيالها وعدم دفع المستحقات لهم دون وجود قانون يضمن حقهم أو مؤسسة تحميهم.
فهل العمل عن بعد في سورية بات باباً جديداً من أبواب الاستغلال؟ أم هو شكل من أشكال سعي الشركات لتحقيق وفر على حساب العمال ومن جيوبهم أو ربما تهرّبٌ من واجباتها ومسؤولياتها.
أجر فقط دون أية حقوق آخرى... عمال دون عقود وبلا تأمينات.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1144
آخر تعديل على الخميس, 19 تشرين1/أكتوير 2023 16:13