هاجس الأكل...

هاجس الأكل...

صباح كل يوم يستيقظ العم أبو محمود وتستيقظ معه أوجاعه وآلامه، فصوت طقطقة عظامه المنهكة- الذي يوقظ الميت من قبره– كافٍ ليعبر عن مدى التعب والآلام التي يعاني منها العم نتيجة جلوسه المستدام على كرسي باص النقل الداخلي الذي يعمل عليه سائقاً منذ أكثر من خمسة عشر عاماً.

تجاوز أبو محمود الخمسين من عمره وهو متزوج ولديه من الأولاد شابان وابنتان، الولد الأول ملتحق بالخدمة الإلزامية منذ أكثر من خمس سنوات، والولد الثاني يدرس سنته الثانية في الجامعة، أما ابنتاه فالصغيرة تبلغ من العمر خمس سنوات، والكبيرة تنتظر تخرجها من كلية التربية هذا العام. لا معيل لهذه العائلة سوى والدهم الذي يعمل يومياً حوالي عشر ساعات خلف مقوده مقابل بضع ليرات لا تسمن ولا تغني من جوع.

المفارقة العجيبة...

يبلغ دخل العم أبو محمود الشهري ما لا يزيد عن 700 ألف ليرة في أحسن الأحوال، وعلى الجهة المقابلة فإن تكاليف الغذاء فقط لهذه العائلة البائسة يقدر بحوالي أربعة ملايين ليرة فقط لا غير وذلك بغض النظر عن تكاليف الحياة الأخرى من سكن ومواصلات وتعليم ولباس وصحة وأدوات منزلية واتصالات... وغيرها، وبالتالي فإن دخل أبي محمود لا يكفي حتى لتأمين الغذاء لفرد واحد من أفراد عائلته، مع العلم أن الحد الأدنى لتكاليف الغذاء للفرد الواحد يقدر بحوالي 778 ألف ليرة، وعليه فإن هذه العائلة غير قادرة على تأمين الحد الأدنى من تكاليف غذائها إلا بنسبة 17.5% وتأمين 6.7% من وسطي تكاليف حياتها من غذاء وتكاليف أخرى تم ذكرها أعلاه.

كيف يمضي اليوم..

أصبح العم أبو محمود مجبراً على إلغاء بعض بنود تكاليف الحياة بشكل كلي، ومجبراً على تقنين بعضها الآخر، خاصة وأن هذه التكاليف هي مقننة بالأصل، وتمثل الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة، ولكن على ما يبدو فإن السوريين مجبرون على العيش ضمن حدٍّ أدنى بأضعاف من الحد الأدنى المفترض، ويوضح لنا أبو محمود كيف يلوي ذراع تكاليف حياته لتصبح متناسبة مع دخله.
«أنا بفوت على هالبيت 700 ألف ليرة كل شهر ما بتنصرف إلا ع الأكل ويادوب عم تكفي، وعينك تشوف هالأكل نسينا الخضرة واللحمة والفواكه والبيض والسمنة، هي القصص مو لإلنا. ومافي بهالبيت غيري عم يشتغل، ابني الكبير بالجيش صرلو أكتر من خمس سنين وآخر زيارة قلتلو لا بقى ينزل خلص منتواصل معه ومنطمن عليه، لأن نزلته لعنا ع البيت بتكسرنا شهر بس أجار طريقه روحة ورجعة، ما قلتلك عن المبلغ يلي بدو يدفعه مصاريف تانيه حتى ينزل. وابني التاني عم يدرس ويشتغل وراتبه يا بكفيه أجار مواصلات ع الجامعة يا ما بكفيه، أما بنتي الكبيرة دائماً بتقلي بدها تنزل تدور ع شغل تساعدني بمصروف البيت بس أنا ما برضى، لأنه الحياة برا البيت والله صايرة غابة ألف ابن حرام ممكن يتعرضلها».
ويكمل أبو محمود «أكتر من هيك مافيني أعمل، الولاد صرلهن أكتر من تلت سنين ما اشتروا قطعة تياب، والحمد لله يعني ما في حدا مريض ولازمه دوا إلا أنا، لأن هالقعدة ورا الكرسي والله يا عمو بتكسر الضهر، بس شوبدنا نعمل عم ندبر حالنا ونتحمل هالوجع كرمال نستر حالنا وما نجوع ونشحد، والله الحياة صعبة وقاسية الله يفرجها».

عشية كل يوم...

يعود العم أبو محمود عشية كل يوم إلى منزله منهك الجسد ومنكسر الخاطر ومثقلاً بهموم تكسر ظهره، وما إن يضع رأسه على وسادته لينال قسطاً من الراحة حتى تبدأ الأفكار تتقلب في عقله ويتقلب معها يميناً وشمالاً، جل ما يشغل باله هو تأمين لقمة العيش لليوم التالي وعدم نوم أفراد أسرته جائعين، هاجس الأكل يأكل جسده وصحته أكثر مما يفعله ذاك الكرسي الذي يحطم عظامه يوماً بعد آخر، لينام بضع ساعات ويستيقظ في اليوم التالي وتستيقظ معه همومه وأوجاعه وتستمر حياته على هذا المنوال.

الخلاصة..

إن ما وصلت إليه حال البلاد والعباد من فقر وعوز وبؤس هو نتيجة مباشرة للسياسات الليبرالية المتوحشة والمشوهة التي انتهجتها الحكومة، وتشدد الحكومة وتعندها على تلبية مصالح القلة القليلة (أصحاب المال والثروة) على حساب الغالبية العظمى من الشعب السوري ما هو إلا تأكيد على نية هذه القلة المتنفذة والمشوهة بتدمير ما تبقى من قوة الشعب السوري وإنهاء وجود سورية بالكامل، ولكن ما لا يعيه هؤلاء المتحكمون أنّ سورية وأبناءها قادرون على تغيير واقعهم وتجاوز من يدمرهم ويقتلهم ويضحي بدمائهم.. ولنا بالتاريخ عبرة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1137